بما إننا تناولنا علاقة مصر بالعروبة والإسلام مع الإشارة بشكل خاص للعلاقة مع السودان, نستكمل الرؤية المحيطة بمصر فى العالم، حتى نعود ونتفرغ لرؤيتنا للإصلاح فى الداخل.
الوضع الدولى فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وضع موات لكل أمة تريد أن تنهض وبصورة مستقلة. فعندما يختل الوضع الدولى ويكون فى حالة انتقال من وضع إلى وضع آخر فإن هذا يضعف قبضة القوى المهيمنة, وتتاح الفرصة للأمم المستعبدة أن تنهض وتستقل بقرارها ومصيرها.
فبعد سقوط الاتحاد السوفيتى والمعسكر التابع له فى بداية التسعينيات من القرن الماضى تصور البعض أن هذا هو عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم، وقد رفضنا ذلك فى حينه, وقلنا إن القوة الأمريكية الشاملة فى حالة تراجع, وإن العالم يتجه إلى حالة من التعددية الجديدة.
والآن أصبحت الصورة واضحة، فكل التقارير الإستراتيجية تؤكد استمرار تراجع الولايات المتحدة، وصعود الصين إلى المرتبة الاقتصادية الأولى عام 2020, بل لقد تغلبت على أمريكا الآن فى العديد من المؤشرات الاقتصادية، كتحقيق فائض فى الميزان التجارى، وتحول الصين إلى أكبر دائن لأمريكا, وتحول الصين إلى الدولة الأولى الجاذبة للاستثمار. كذلك وفقا للمؤشرات التجارية فإن الاتحاد الأوروبى سبق الولايات المتحدة النهوض الآسيوى فى جنوب شرقى آسيا - تحول الهند إلى دول عظمى - ظهور كتلة أمريكا اللاتينية - ظهور نواة كتلة إسلامية سياسية واقتصادية (إيران - تركيا - سوريا - ماليزيا - السودان), استمرار سعى روسيا لاستعادة نفوذها وتأثيرها, ولكن ضمن خط متعرج وغير مستقر بين التوجه الأوروبى والتوجه الآسيوى, كل هذه مظاهر للتعددية الدولية الجديدة, وتؤكد كل الدراسات العلمية والمستقبلية أن القرن الواحد والعشرين هو قرن آسيوى, وأن أمريكا انتهى قرنها فى القرن العشرين، وتعيش الآن فى البواقى الأخيرة. وقد رفض كثيرون الاعتراف بهذا التحول نحو عالم أكثر تعددية, بسبب القوة العسكرية الأمريكية الطاغية التى لم تعد تنافسها قوة عسكرية مكافئة, والواقع أن روسيا لديها قوة عسكرية مكافئة, لكنها لا تزال تواصل تجنب الأزمات مع الولايات المتحدة, ويحكمها منطق المساومات أكثر من المواجهة, والواقع فإن الولايات المتحدة بدأت تقدم تنازلات لروسيا (فى عهد أوباما - ميديفيديف) لاحتوائها قدر الإمكان: كتسكين أزمة جورجيا, وتأجيل الدرع الصاروخى, مع تقديم بعض الجوائز الاقتصادية, والتوقف عن تقويض دائرة النفوذ الروسى غربا وجنوبا.
كذلك فإن الصين من الناحية العسكرية تتقدم بشدة, وهى تملك أكبر جيش فى العالم، ولديها من ترسانة الصواريخ النووية ما يكفى لتدمير أجزاء واسعة من الولايات المتحدة. وتواصل الصين بناء ترسانتها العسكرية على مختلف المحاور, خاصة البحرية, مع نشر مزيد من القواعد فى آسيا. ولكن الصين تصارع الولايات المتحدة بطريقتها الخاصة الناعمة، فى المجال الاقتصادى, وتقتلع المكانة الاقتصادية الأمريكية يوما بعد يوم، وهى لم تكتف بغزو السوق الأمريكى, ولكنها غزت أسواق أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا وآسيا, وتحولت إلى مارد اقتصادى بكل معنى الكلمة، ثم تحولت إلى تصدير الاستثمارات, ثم تحولت إلى أكبر مستورد للنفط ومختلف المواد الأولية. والصين وإن ظلت تواصل تطوير بنيتها العسكرية، فإنها تتجنب الدخول فى أى استفزازات مع الولايات المتحدة فى أى مكان من العالم، إلا فى منطقة شرق آسيا، وقد حدثت أزمات متعددة ذات طابع عسكرى فى منطقة بحر الصين، ورسالة الصين للولايات المتحدة: إن هذه منطقتى وعليك مراعاة ذلك.
بالإضافة لذلك حدثت طفرة فى وضع الهند، وأصبحت فى مصاف الدول العظمى اقتصاديا (الدولة الرابعة) وعسكريا بامتلاك الترسانة النووية والصواريخ بعيدة المدى. وبين الهند والصين تكونت مجموعة نمور جنوب شرقى آسيا (الآسيان), وقد أصبحت قوة اقتصادية لا يستهان بها، حتى لقد أصبحت التجارة عبر المحيط الهادى (بين آسيا والأمريكتين) أكبر من التجارة عبر الأطلنطى (بين الأمريكتين وأوروبا) وفى أمريكا اللاتينية تحولت معظم القارة إلى موقف استقلالى عن الهيمنة الأمريكية، وبدأت تنشىء سوقها المشترك الخاص (الميركسور)، بالإضافة لظهور الإرادة السياسية المستقلة فى فنزويلا والبرازيل وبوليفيا وغيرها.
وفى أقصى جنوب القارة الأفريقية تقوم جنوب أفريقيا بتشكيل رأس لمجموعة اقتصادية أفريقية.
وقد لا يشعر كثيرون بكل هذه التطورات, لأن معظمها فى المجال الاقتصادى، وأن القوة العسكرية الروسية أو الهندية أو الصينية ليست فى حالة مواجهة مع الولايات المتحدة, بل كل من القوى الأربع تحاول أن تتجنب ذلك، باستثناء التماس العسكرى الذى حدث فى أزمة جورجيا، والتوترات المتقطعة بين الصين وأمريكا فى بحر الصين. ولكن لا يمكن لأى قوة عظمى أن تواصل هيمنتها على العالم فى ظل تراجعها الاقتصادى المتوالى. بل هذا ما حدث بالفعل, فالولايات المتحدة تراعى المراكز الاقتصادية المتصاعدة لكل هذه القوى الآسيوية واللاتينية, ولا تستطيع أن تملى أو تفرض عليها ما كان بإمكانها أن تفعله من قبل. كما أن تعاملها مع الهند يتم بصورة ندية متكافئة، بعد أن فرضت الهند نفسها على الساحة الدولية.
أما النمور الآسيوية التى نشأت أساسا فى إطار التبعية السياسية، فإن قوتها الاقتصادية المتصاعدة تمكنها من ممارسة إرادة مستقلة فى العلاقات الدولية.
أما اليابان فهى بعد أن تحولت إلى عملاق اقتصادى تحتل المركز الثانى فى العالم، تتجه إلى التراجع، بسبب إصرارها على الاستمرار فى لعب دور القزم السياسى التابع للولايات المتحدة. وتحول الاتحاد الأوروبى إلى عملاق اقتصادى يتعامل مع الولايات المتحدة بصورة ندية, خاصة فى الأمور الاقتصادية والتجارية, وبالمعنى الحرفى فإن الولايات المتحدة لا تمارس سطوتها الامبريالية التقليدية، إلا فى الوطن العربى وأجزاء واسعة من أفريقيا، وبعض البلاد المتناثرة هنا وهناك. وقد أكدت خبرة السنوات القليلة الماضية أن القوة العسكرية الأمريكية لا يمكن أن تغطى على التراجع العام للقوة الأمريكية فى شتى المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية, فكانت الهزائم والتجارب العسكرية الفاشلة فى العراق وأفغانستان, وتجارب الفشل للحليف الأصغر (إسرائيل) فى لبنان وغزة, أكبر دليل عملى على أن تراجع القوة الأمريكية أصبح مسألة واقع لا مراء فيه. (راجع التفاصيل فى كتاب أمريكا طاغوت العصر - الطبعة الثالثة).
إذن لقد قام العرب والمسلمون من خلال مقاومة الاحتلال الأمريكى - الصهيونى بعمل تاريخى, فقد هزموا القوة العسكرية العظمى لهذا التحالف, دون الاستناد إلى قوة عظمى أخرى كما كان يحدث خلال فترة الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى. وأهينت القوة العسكرية الأمريكية وفقدت هيبتها وتبعتها العسكرية الإسرائيلية فى هذا الطريق.
قد تبين خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة (2008-2010) والتى لم تنته فصولها بعد, أنها فى الجوهر أزمة أمريكية ثم أزمة أمريكية - أوروبية, أما باقى المراكز الاقتصادية فى العالم فقد امتصتها سريعا وواصلت معدلات النمو المعتادة لها، فما تعرضت له آسيا وأمريكا اللاتينية كان مجرد انعكاس للأزمة الأمريكية عليها, وقبل هذه الأزمة وبعدها فإن ما يسمى الدول الناهضة هى التى تعطى معدل نمو ايجابى لاقتصاد العالم وعلى رأسها: الصين والهند, وتضاف إليهما روسيا والبرازيل وتركيا ودول جنوب شرقى آسيا, حيث تختلف القائمة من عام لآخر، ولكن تصدر الصين والهند لأعلى معدلات نمو فى العالم هو الأمر الثابت فى العقد الأخير.
هذا الانكسار الاقتصادى الذى أصبح واضحا فى الأزمة الاقتصادية الأخيرة، الذى يترافق مع الانكسار العسكرى أمام مقاومة العرب والمسلمين, أصاب المكانة القيادية للولايات المتحدة فى مقتل، وأدخل العلاقات الدولية إلى مزيد من حالة السيولة. فاقتصاديا الأرض تنسحب من تحت أقدام (الولايات المتحدة)، وعسكريا أمريكا لديها قوة لا تعرف كيفية استخدامها للحفاظ على مصالحها، بل أصبحت تعانى من الإنفاق على هذه الآلة العسكرية.
وفى نفس الوقت لا يوجد زعيم بديل يطرح نفسه برؤية سياسية اقتصادية ثقافية حضارية شاملة, ولكن كل من الصين والهند وروسيا يبحث عن مصالحه القومية والاقتصادية, ولا يهتم حتى الآن إلا بمجرد كسب الأرض فى هذا الميدان.
والسيولة تأتى من هنا, فقائد العالم السابق أو المتجه للإحالة للمعاش, لم يعد مسيطرا على مجريات الأمور فى الكرة الأرضية, ولكنه يبدو كقائد فعلى بحكم عدم تقدم بديل ليحل محله لعدم توفر هذه الرغبة بناءا على حسابات المصلحة الإستراتيجية, فعلى الصين والهند وروسيا القيام بمهام عديدة فى محيطها الإقليمى قبل إثارة المشكلات فى أماكن بعيدة, وترى الصين أنها تجتث جذور أمريكا الاقتصادية فى كل مكان بما فى ذلك السوق الأمريكى نفسه، والحكمة الصينية تقول أن هذا يكفى جدا فى هذه المرحلة, أما خريطة القوة الحقيقية للولايات المتحدة، فهى تحالفها مع الاتحاد الأوروبى الذى تقدم له الحماية النووية والعسكرية والهيمنة على الوطن العربى وما فيه من منابع البترول وأجزاء واسعة من أفريقيا. على أساس وراثة النفوذ الإنجليزى - الفرنسى. وكلما أدركت أمريكا تراجع قوتها العالمية كلما ازداد تركيزها على ما يسمى (منطقة الشرق الأوسط) أى قلب المنطقة العربية الإسلامية لموقعها الاستراتيجى المتميز فى منتصف العالم، ولما بها من خزان نفطى، بالإضافة للتحالف مع الكيان الصهيونى. ولم يكن من قبيل الصدفة أن الجيش الأمريكى لم يقم بأى أنشطة تذكر فى أى مكان آخر من العالم، وأن 99% من نشاطه العسكرى الفعال (أى غير الروتينى) هو فى هذه المنطقة, والولايات للمتحدة لم تحكم قبضتها على المنطقة بهذه الجيوش التى رأينا ماذا فعلت بها المقاومة؟ ولكن أحكمت قبضتها بالنظام الرسمى العربى، حيث أقامت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعلى مراحل علاقات مؤسسية مع معظم الأنظمة العربية, بحيث أصبحت التبعية للولايات المتحدة هى الدستور الحقيقى للبلاد. وهذه الطبقات والشرائح الرخوة فى الحكم مستسلمة تماما للنفوذ الأمريكى، ولا تملك حتى أدنى رغبة أو استعداد لممارسة روح المغامرة، ومعظم هذه البلدان خاصة فى الخليج هم فى حكم البلاد المحتلة بصورة صريحة. ومن هنا ستظل مهمة العرب والمسلمين التاريخية مواصلة جهادهم لتحرير البشرية من النير الأمريكى، ليس فى مجال المقاومة فحسب حيث تم وضع حدود واقعية للعسكرية الأمريكية, ولكن أيضا فى إعادة بناء النظام الدولى الجديد.
وقد أشرنا مرارا فى أدبياتنا إلى أهمية التحالف العربى - الإيرانى, باعتباره نواة التحالف العربى الإسلامى, على أساس أن إيران أول دولة إسلامية تحطم أطر التبعية للغرب عبر ثورتها التاريخية. وكان التحالف الإيرانى - السورى - اللبنانى - الفلسطينى بالإضافة للمقاومة العراقية والأفغانية والباكستانية هو نواة القطب العربى - الإسلامى, ليس فى المنطقة فحسب, بل فى العالم بأسره. ثم أخيرا جاء الموقف التركى ليقلب الموازين أكثر لصالح الأمة، وإن كان ذلك من خلال الموقف السياسى والاقتصادى، وإن استدارة تركيا العدالة والتنمية نحو أمتها الإسلامية (خاصة الأمة العربية بحكم الجوار) غير خريطة المنطقة بأسرها. وأصبح القطب العربى - الإسلامى أكثر وضوحا وتبلورا واتساعا، بل وأصبح له دور ملموس على المستوى العالمى (اتفاق البرازيل - تركيا - إيران حول المشروع النووى الإيرانى). وقد حققت تركيا خلال 7 سنوات فحسب معدلات مذهلة فى التنمية والنمو على المستوى العالمى, وأصبح اقتصادها فى المركز الـ 17 على مستوى العالم, وحققت فى عام 2009 المعدل الثالث فى النمو على مستوى العالم بعد الصين والهند. إذن نحن لا نتحدث عن مجرد إضافة بلد, وإنما قطب كبير, ورغم البعد الجغرافى نضم لهذه الكتلة: ماليزيا والسودان, وكل هذه الأطراف بينها علاقات ثنائية مكثفة، وإن لم تأخذ بعد شكل السوق الموحد، وإن حدث ذلك بين تركيا وسوريا، ثم بينهما والأردن ولبنان. نحن إذن أمام تبلور قطب عربى - إسلامى على المستويين الإقليمى والعالمى، وهو يواجه بالأساس الهيمنة الأمريكية - الصهيونية المتخصصة فى السيادة على العرب والمسلمين.
وقد أدى هذا إلى تبلور علاقات دولية بين هذا القطب وباقى الكتل العالمية المستقلة عن الولايات المتحدة، وبالأخص كتلة أمريكا اللاتينية، والصين، والهند، ودول جنوب شرقى آسيا (مع ماليزيا بشكل خاص)، وروسيا، بدرجات متفاوتة.
ولابد من ملاحظة أن الهجوم الأمريكى الغربى المكثف على البرنامج النووى الإيرانى، يستهدف بالأساس ضرب العمود الفقرى العسكرى لهذه النواة العربية - الإسلامية، سواء أكانت إيران تستهدف إنتاج سلاح نووى أم لا، فامتلاك المعرفة النووية قوة، كذلك فقد برهنت إيران على تطور صناعتها الحربية فى شتى المجالات، بالإضافة لقدرات وثروات بلد بحجم إيران. وهى كلها عوامل تحفز على ضرب وحصار إيران حتى إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية, وقد كان هذا هو الهدف الأمريكى منذ اليوم الأول للثورة، أما الآن فإن إسقاط النظام أصبح عسيرا أكثر بكثير، ليس بسبب ما أشرنا إليه من قوته العسكرية, ولكن أيضا بسبب توسع دائرة القوى والدول الحليفة والصديقة لإيران فى المنطقة.
وقد أصبحت إيران (بعد العراق وأفغانستان) بؤرة الصراع العالمى، لأن أمريكا تسعى للحيلولة دون استقرار هذا القطب العربى - الإسلامى، وهو القطب المرشح لتقويض نفوذها فى أهم منطقة متبقية لها فى العالم (الشرق الأوسط)، لذلك فإن الصراع سيظل يتسم بالمرارة والشدة لأنه أشبه بمعركة الحياة أو الموت للحلف الصهيونى - الأمريكى. وما نشير إليه من علامات تراجع قوة هذا الحلف يرشحه للتعامل كنمر جريح وهذا خطر.
ما هو موقفنا إزاء هذا الوضع الدولى؟
المبدأ الإسلامى واضح وعادل ومبدئى (نسالم من يسالمنا ونعادى من يعادينا), ومما يزيد قوة مصر أن تتعامل مع العالم من خلال قوتها الإقليمية, وبناء على ما سبق, فإن المبدأ الأول فى سياستنا الخارجية، هو إحياء الوحدة والقوة العربية, مع الاستفادة من تجارب الفشل الماضية، بالتركيز على البنية الأساسية والاقتصادية، ذلك أن شبكة طرق برية وسكك حديدية وبحرية وجوية هو الذى سيوحد الأمة ويعزز مصالحها المشتركة، مع إلغاء ما يسمى تأشيرات الدخول، وإقامة السوق العربى المشترك هو الأساس المتين لأى حديث عن الوحدة العربية، والقوة العربية، ذلك أنها تتحول بذلك إلى أمر واقع, وحتى الحكام غير المتحمسين للوحدة لن يستطيعوا الوقوف فى طريقها، لذلك لابد من الفصل بين التقدم فى التعاون الاقتصادى وطبيعة الأنظمة، بمعنى أنه لابد من تشجيع التعاون الاقتصادى بغض النظر عن الاختلاف فى طبيعة الأنظمة، لأن الأنظمة زائلة، أما علاقات التعاون بين الشعوب فمستمرة، مع إدراك أن الوحدة الحقيقية والكاملة لن تتحقق بدون إرادة سياسية مستقلة عن الهيمنة الأمريكية.
والعلاقات مع الدول الإسلامية تأتى بذات الأهمية تقريبا وبالتوازى، مع ملاحظة أن عوامل القرب العربية ستجعل العلاقات العربية أكثر كثافة, ويكون لها الأولوية بهذا المعنى، أى أولوية عملية وليس مبدئية, فمن حيث المبدأ الاهتمام بتوثيق العلاقات مع الدول العربية والإسلامية على ذات المستوى.
ثم تأتى بعد ذلك دائرة الجنوب، أى معظم دول العالم التى من مصلحتها إقامة علاقات دولية عادلة، وإنهاء احتكار الشمال للسيادة على الكرة الأرضية، وهذه تشمل كل الدول الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية. وتأتى فى المحل الأخير دول أمريكا الشمالية وأوروبا, وهذه تتوقف العلاقات معها من حيث القرب أو البعد، على أساس مسألة العدوان, فالدول التى تعتدى علينا أو على أى دولة عربية وإسلامية وتحتلها وتخرج أهلها من ديارهم، فلا يحق شرعا إقامة أى نوع من علاقات التعاون معها حتى توقف عدوانها. وهكذا فإن الأصل هو إقامة علاقات تعاون طبيعية مع كل دول العالم, عدا الدول المحاربة للمسلمين، والتى تشن حربا واسعة على المسلمين (وليس مجرد نزاعات حدودية).
لا يجوز شرعا بنص القرآن إقامة علاقات تعاون مع أمريكا وإسرائيل, وأى دولة أوروبية أو غير أوروبية تشاركهما فى العدوان المسلح على المسلمين، ولا يشترط أن يكون ذلك العدوان على مصر، لأن المسلمين أمة من دون الناس، واتخاذ الحدود الوطنية وحدها كمعيار للموقف من العدوان، هو إسقاط صريح للالتزام بالعقيدة الإسلامية.
(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8-9).
وبالتالى فإن التقسيم الثلاثى للعالم، هو تقسيم منطقى ومشتق من القرآن الكريم, وليس من اجتهادات الفقهاء وهو: دار الإسلام - دار الحرب - دار العهد, ولا يستخدم هنا لفظ (دار الكفر) لأن العلة فى القتال هى العدوان وليس الخلاف فى العقيدة، لأن دار العهد أيضا غير مسلمين. وهذا يؤكد أن المسلمين لا يحاربون غيرهم لأنهم كفار، ولا يسعون لإدخالهم الإسلام بالقوة، بل يحاربون غيرهم عندما يعتدون عليهم، فليس لديهم من سبيل إلا رد العدوان. والنصوص فى ذلك كثيرة: (وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ).
فالدولة الأجنبية المعتدية هى التى تضع نفسها فى خانة (دار الحرب)، وإلا لأصبحت تلقائيا من دار العهد. ودار العهد ليس بالضرورة أن تكون هكذا بناء على معاهدة مكتوبة. فمثلا مصر لا تحتاج لمعاهدة مكتوبة مع الصين أو البرازيل, ليس للبعد الجغرافى فحسب, بل لأنه لا توجد أى سوابق اعتداء تاريخية منهما.
فالأصل أن الدول جميعا دار عهد إلى أن يثبت العكس، كالاعتداء على أراضى المسلمين، أو محاربة المسلمين على أراضيها (كالصرب فى تجربة البوسنة والهرسك). ومع ذلك فإن الفقه الإسلامى به سعة، إذ أجاز التعامل مع من أسماه الحربى المستأمن، أى المستثمر أو التاجر القادم من دولة محاربة شريطة الاطمئنان إلى نواياه وعدم إضراره بالمصالح الوطنية.
ولأن نظام مبارك لا يلتزم بشريعة الله, فإن الأرقام الرسمية المعلنة تشير إلى أن معظم تجارة مصر الخارجية مع أوروبا وأمريكا! فالميزان مقلوب، وليس هذا المؤشر الوحيد، بل كافة المؤشرات الأخرى: المعونات - القروض - استيراد السلاح - الاستثمار.. إلخ, والأهم من ذلك الخضوع للقرار السياسى الأمريكى فى الأمور الأساسية بالمنطقة.
إننا ندعو على المستويين الرسمى والشعبى إلى إنهاء هذه الحالة من انبهار العجزة أمام التقدم الأوروبى والأمريكى، وأن تتركز علاقاتنا الاقتصادية والثقافية وزياراتنا مع الغرب، ندعو إلى الاهتمام بالشرق والسفر شرقا, ودراسة التجارب الآسيوية الفذة والتعلم منها، وإقامة العلاقات مع جامعاتها ومؤسساتها ومثقفيها بدلا من حالة التوجه الأحادى للغرب. شريطة ألا نتحول إلى الانبهار بآسيا بدلا من الانبهار بأمريكا. فالمهم أن نكتشف طريقنا للمنافسة بين الأمم، وأن ندرك أننا أصبحنا خارج السباق الحضارى، وأن أحدا فى العالم لا يحترم الضعفاء والمتخلفين والعجزة. وأنه لا توجد قوة عالمية مستعدة لانتشال مصر (أو أى دولة عربية أو إسلامية) من كبوتها، وأن هذا هو تحدى كل أمة مع نفسها، فعلى كل أمة أن تعتمد على نفسها بالأساس, وأن تحفر طريقها فى الصخر، وعبر هذه العملية الكفاحية وحدها يمكن أن تتعلم من تجارب الآخرين الذين سبقوها.
ويتصور البعض خطأ أن اهتمام أدبيات حزب العمل بدراسة وتحليل الوضع الدولى وكأنه نوع من الدعوة للاعتماد على هذه القوى الدولية الصاعدة، والواقع أننا فى حزب العمل نؤمن بأن التنمية والنهضة الشاملة تعتمد على قوى الأمة وحدها, وأن المثل الشعبى السائر هو القانون فى ذلك المجال (ما حك جلدك مثل ظفرك فتولى أنت جميع أمرك)، ولكن الاهتمام بالوضع الدولى ضرورى لفهم البيئة الدولية التى نتحرك فيها، وما هو موات لنا, وما هو ضدنا فيها, وما هو المتوقع فيها فى المستقبل القريب، وهذه من الأمور التى لا تعيرها اهتماما معظم الحركات الإسلامية التقليدية، ويتصورون أنهم يعيشون فى جزيرة معزولة، أو أن الجميع لا يهمنا طالما أنهم غير مسلمين! والقصور فى الفهم السياسى والاقتصادى لمجريات ما يجرى فى العالم من أهم عوامل فشل الحركات الإسلامية. فى حين يحضنا القرآن الكريم على فهم ودراسة العالم من حولنا.
مجدى أحمد حسين
*****
المقالات الكاملة لمجدى حسين: