فى إطار ما ذكرناه عن السقف المحدود للأرض الزراعية وقلة الموارد المائية، فإن الصناعة هى المخرج والمجال الأساسى للاندفاع فى عملية التنمية، وهى أداتنا الرئيسية للتوسع فى فراغ الصحراء (94% من أرض مصر) ببناء التجمعات السكنية والمدن حولها، وللقضاء على مشكلة البطالة المتصاعدة والتى بدأت تظهر انعكاساتها المخيفة فى مجال العلاقات الاجتماعية واتساع دائرة الجرائم الشخصية والعائلية، وارتفاع معدل الطلاق، وتحقيق معدل قياسى فى محاولات الانتحار (104 ألف محاولة فى العام الأخير وفقا للإحصاء الرسمى)، والهجرة غير الشرعية التى أدت لمقتل مئات الشباب، وتحويل ألوف مؤلفة من المصريين إلى شاردين فى أوروبا وبعض الدول العربية حيث يتم ترحيلهم بصورة مهينة يوميا، (ذكرت صحيفة الأهرام منذ عدة سنوات أن عددهم وصل إلى مليون فى إيطاليا وحدها، وأن 100 ألف منهم دخلوا السجون الإيطالية استعدادا لترحيلهم). والصناعة هى وسيلتنا الرئيسية لرفع مستوى المعيشة، وفتح إمكانيات التوسع فى التصدير لإصلاح حال ميزاننا التجارى.
وفوق كل ذلك فإن الصناعة هى صيحة العصر، ليس من الآن فحسب, بل منذ القرن التاسع عشر وما قبله قليلا، لذلك فإن الأمم التى لها مكانة فى العالم هى الأمم التى اقتحمت مجال الصناعة التحويلية فى مجالاتها المختلفة. ولا توجد دولة متقدمة فى العالم تمثل الزراعة النسبة الأكبر فى إنتاجها القومى. حقا لا تزال وستظل الزراعة قطاعا ضروريا وأساسيا للحضارة البشرية فهى أساس الغذاء والدواء ومستلزمات الإنتاج، ولكنها مع تقدم الميكنة وأساليب الزراعة المتطورة لم تعد تحتاج نفس العدد من القوة البشرية، بل يظل هذا العدد مطلقا ونسبيا فى انخفاض مستمر، مع استمرار ارتفاع الإنتاج. وبالتالى فإن الصناعة هى القطاع الرائد فى كل الاقتصادات المتطورة والناشئة، لأنها هى التى تلبى الاحتياجات الاستهلاكية المتعاظمة، وتحقق أكبر قيمة مضافة، وهى أعلى الوسائل لتعظيم الاستفادة من الثروات الطبيعية لإشباع حاجات الإنسان، وتطوير أحوال المعيشة، وتوفير وسائل القوة العسكرية، وهى أهم السبل لتحقيق وضمان الاستقلال الاقتصادى والسياسى. فالدول الصناعية هى التى تحكم العالم وليس من بين الدول المؤثرة ما يمكن أن توصف بأنها دولة زراعية. وبالتالى فإن دولة محورية كمصر فى إقليمها ومن ثم فى العالم لا يمكن أن تظل خارج السباق العالمى الصناعى إلا إذا كانت مجرد مستعمرة بائسة للولايات المتحدة كما هو الحال الآن. ولا يمكن لبلد محورى كمصر أن تكون السياحة هى عموده الفقرى الاقتصادى, فهذا قد يصلح لجزيرة من جزر المحيط الهادى، ولكن لا يمكن أن يصلح ليكون أساس اقتصاد دولة بوزن وأهمية ومكانة مصر، وهى كما ذكرنا فى البداية أهمية ومكانة لم نخترها ولكنها فرضت علينا بحكم الموقع والموضع والحضارة والتاريخ.
وقد ضربت نهضتنا الصناعية عدة مرات فى تاريخنا الحديث، بسبب تكالب القوى الاستعمارية الغربية علينا، وبسبب تولى حكام لا يدركون أهمية وقيمة مصر، وبسبب غياب المرجعية الإسلامية للحكم، هذه المرجعية التى تلزم المسلمين بالأخذ بأسباب القوة: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ). والآن لا توجد قوة اقتصادية أو عسكرية بدون صناعة.
ضربنا عندما لم نلتزم بالتوجيه القرآنى الذى جعل التنمية الصناعية جزءا لا يتجزأ من العقيدة! (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) (الحديد: 25).
لقد ضربت النهضة الصناعية التى انطلقت فى عهد محمد على، وضربت النهضة الصناعية التى قادها طلعت حرب، ثم ضربت النهضة الصناعية فى عهد عبد الناصر. وقد شرحنا من قبل الأسباب التاريخية لتكالب القوى العظمى دائما على مصر، ولكن ذلك لا يبرر لنا الاستسلام، فلابد أن يقوم المارد من جديد ويحصن نفسه بالعدل وبالقوة العسكرية، ويحصن نفسه بعقيدة الإسلام، ويحصن نفسه بتوحيد قوى العرب والمسلمين. ومهمة جيلنا والأجيال القادمة أن تتمسك بهذا الحق المشروع، بل الواجب الوطنى والقومى والدينى، أن نكون أمة لها مكانتها التى تستحق بين الأمم، نحن لا نريد أن نهدد أحدا، ولا أن نتوسع، أو نفرض هيمنتنا على أمة من الأمم، ولكننا نريد أن نحفظ مكانتنا واستقلالنا وحقنا فى الدخول فى المباراة السلمية الحضارية التى خرجنا منها على يد حكامنا الحاليين.
فى الثلاثين عاما الأخيرة أدت التبعية للولايات المتحدة وأداتها (صندوق النقد الدولى) إلى تدمير القاعدة الصناعية التى شقيت الأمة فى بناءها فى عهدى طلعت حرب وعبد الناصر، فتم تفكيك وبيع القطاع العام للأجانب بأرخص الأسعار، ولم نكن أمام برنامج وطنى للخصخصة يستهدف تنشيط الاقتصاد وتحويل بعض المصانع لشركات خاصة وطنية أو عربية لرفع مستوى الأداء الاقتصادى. بل كانت عملية أقرب ما تكون للخيانة الوطنية منها إلى أى سياسة معتبرة، ولم يترافق مع هذه الخصخصة أى نهضة ملموسة للقطاع الصناعى الخاص. فالآن تكاد مصر تخرج من تعريف الدولة الصناعية رغم كل ما تمتلكه من خبرات وكفاءات فى المجال الصناعى، لأنها تعرضت للتقاعد أو التشتيت.
ولا تقوم السياسات الرسمية على أساس حفز وتشجيع القطاع الصناعى، بل اهتمت أساسا بحفز السياحة والأنشطة العقارية، وأعمال الاستيراد والسمسرة، وتصدير المواد الأولية وعلى رأسها البترول بدلا من توظيفها فى الاستثمار الصناعى المحلى. أما المصانع التى تنشأ فى المناطق الصناعية الجديدة فهى لا تخرج أساسا إلا عن:
1- إنتاج سلع استهلاكية وغذائية بسيطة، ولكن حتى فى هذا المجال هناك منافسة من شركات ومصانع أجنبية فى هذا المجال.
2- مصانع عبارة عن توكيلات لشركات أجنبية تقوم بالتركيب أو التجميع النهائى لمنتجها على أرض مصر، حتى تكون قريبة من السوق المصرى، ولتجنب الجمارك التى تفرض فى حالة استيراد السلع جاهزة الصنع من الخارج. وهذا النوع من الصناعات لا يشغل أعدادا كبيرة من العمالة، ولا يقدم للبلاد أى إضافة معرفية بالتكنولوجيا.
3- مصانع وطنية خارج السلع الغذائية والاستهلاكية البسيطة، ولكنها مشروعات متناثرة لا تأتى فى سياق خطة للنهضة الصناعية بحيث تتكامل المشروعات مع بعضها البعض.
وفى هذا الإطار فإن ما تبقى من مصانع القطاع العام أصبح أقرب إلى شواهد القبور أو نصب تذكارى على أنه كانت توجد صناعة وطنية فى مصر! فهذه المصانع إما تنتظر البيع فلا يوجد لديها حافز للتطوير، أو هى أصبحت خارج أى منظومة متكاملة للصناعة الوطنية بحيث أصبح إنتاجها وكأنه لا مبرر له، وأبرز مثال على ذلك مصانع الحديد والصلب فى حلوان التى تحقق خسائر كبرى وتحاول تعويض ذلك بالتصدير، فى حين أن مهمتها الرئيسية كانت تغذية الصناعات الأخرى باحتياجاتها من الحديد والصلب، ولكن هذه الصناعات الأخرى لم تعد موجودة أو هى الأخرى فى طريقها للبيع! ولا يمكن الحديث عن صناعة وطنية بالمعنى المفهوم للكلمة بدون وضع مؤسسى للبحث العلمى يحفز الباحثين على الابتكار وينمى مواهبهم بما يتلاءم مع احتياجات التنمية الصناعية، وتشير كل التجارب التنموية إلى ازدهار أشكال من التكنولوجيا المحلية التى تتلاءم مع البيئة وأنواع المواد الأولية المتوفرة والخبرات المختزنة لدى العاملين فى مجالات محددة، واحتضان براءات الاختراع إلى منتج تجارى. هذه الدائرة تكاد تكون متوقفة تماما فى مصر، باعتراف المسئولين ووزراء البحث العلمي. إن استيراد المصانع الجاهزة بأسلوب تسليم المفتاح، سياسة عفى عليها الزمن منذ عشرات السنين، فى البلدان النامية، ولا يستمر فيها إلا الكسالى الذين لا يملكون أى رؤية للتنمية المستقلة. وقد اعتمدت بعض التجارب التنموية فى آسيا على أسلوب مبتكر، حيث تعاقدت مع شركات أجنبية لتصنيع منتجاتها محليا بشرط نقل الخبرة التكنولوجية تدريجيا للاقتصاد الوطنى، وبحيث يتم الاستغناء تدريجيا عن الخبراء الأجانب، ثم تتحول الشركة إلى شركة وطنية تماما. أما نحن فعندما تعاقدنا مع شركة جنرال موتورز الأمريكية للسيارات كان ذلك بشرط وقف إنتاج السيارات فى مصانعنا الوطنية، وهذا ما حدث بالفعل، فى حين أن شركة جنرال موتورز لا تقوم إلا بعملية تركيب وتجميع الأجزاء الأساسية للسيارة، والتى تأتى جاهزة من الخارج.
وقد أدى الاعتماد على شركات ومصانع التوكيلات إلى تدمير الصناعة الوطنية فى عدد من المجالات الاستهلاكية البسيطة كأدوات التجميل والصابون ومعجون الأسنان وشفرات الحلاقة. كذلك تجرى أخطر عملية لإحلال شركات أجنبية محل الشركات الوطنية بالإضافة للاستيراد فى مجال الأدوية، وهو المجال الذى حققت فيه الصناعة الوطنية انجازات مبهرة فى الستينيات من القرن الماضى وحتى زمن الانفتاح. وهذا من أهم أسباب الارتفاع المستمر فى أسعار الدواء. كذلك فإن بيع صناعة الأسمنت بأكملها (80%) للأجانب أدى إلى سيطرتهم على هذه المادة الأساسية فى عملية البناء وارتفاع أسعارها، رغم أنها كانت تحقق أرباحا فى زمن القطاع العام. وهكذا أصبحت لدينا صناعة نحن الذين بنيناها بعرقنا، ولا تزال على أرض مصر، ولكننا لا نملك السيطرة عليها. (المعروف أن البلاد الغربية لديها سياسة بإقامة مشروعات الأسمنت فى الخارج لأنها صناعة ملوثة للبيئة!).
والمعروف أن الأمة التى تريد تطوير صناعتها فلابد أن تتخذ من التشريعات والقرارات ما يحفز المستثمرين على الاستثمار فى الصناعة، كتخفيض الضرائب فى المرحلة الأولى لبدايتها، وفرض نوع من الحماية الجمركية، ونشير هنا إلى أن اتفاقية التجارة العالمية لم تلغ حتى الآن الضرائب الجمركية، بل وتضع أسسا لاستمرارها تحت مسمى الإغراق أو عدم الجودة، وهذا ما تستغله الدول الصناعية الكبرى حتى الآن، وكذلك إعطاء ميزات تفضيلية للصناعة المحلية، ووضع قيود على الاستيراد فى حالة توفر البديل الوطنى. أما فى أوضاعنا الراهنة فإن (جمارك السلع التامة الصنع أقل من جمارك مستلزمات الإنتاج فى بعض الصناعات، وهو ما يعطى ميزة أكبر للاستيراد! كما أن خامات الصناعة يتم تصديرها بأسعار أقل مما تباع به للمنتجين المحليين. كما أن قرار رئيس الوزراء بتشجيع المنتج المحلى وإعطائه ميزة سعرية فى حدود 15% غير مفعل) (الفريق حمدى هيبة رئيس مجلس التعميق الصناعى، ورئيس الهيئة العربية للتصنيع).
وهذا يؤكده أيضا على فهمى الصعيدى وزير الكهرباء والصناعة الأسبق فيقول أن رئيس الوزراء فى عهده (2001) أنشأ لجنة للتصنيع المحلى ألزمت جميع الجهات الحكومية حينئذ بالحصول على موافقة منها قبل استيراد أى منتج من الخارج، للتأكد من عدم وجود مثيل له فى السوق المحلية، ولكن بشرط أن يكون مستوى جودة السوق المحلية مماثلا للسلعة المستوردة. فمن العيب أن أصرف على عامل فى الخارج بدلا من عامل فى مصر. لكن هذه الفكرة (لاحظ أنه قرار وليس فكرة!) سرعان ما تاهت وسط توجه الدول إلى تطبيق سياسة السوق الحرة.
ويضيف: يجب على الدولة تهيئة المناخ المحلى للمصنعين، فأنا لا أستطيع كدولة، نتيجة الالتزامات الدولية أن أوقف الاستيراد، ولكنى أستطيع كحكومة أن أوفر للصناعة المحلية مشتريا ومستهلكا مضمونا وهو الحكومة، أى أنها يجب أن تقوم بشراء جميع المنتج المحلى بشرط أن يكون بنفس الجودة (حديث لصحيفة الشروق). ونضيف لذلك أن ضمان التسويق للصناعة المحلية سيعطيها أرباحا طائلة تمكنها من رفع مستوى الجودة.
وبينما نحن فى هذا التراجع المخيف كان العالم يدخل مرحلة أسماها ما بعد الصناعة، وهى الصناعات القائمة على الآلية الكاملة التى تعتمد على الإنسان الآلى ثم الصناعات الالكترونية، وكل أشكال الصناعات المتطورة التى يطلق عليها "الهاى تيك" أى المشروعات ذات التقنية العالية. وقد برهن التطور الصناعى على دور الإنسان وأنه هو أساس التنمية ومحورها وليس عبئا عليها كما يقول الحكام فى دعايتهم لتحديد النسل، فرأينا دولا صغيرة وبدون ثروات طبيعية وفيرة تقتحم المجال الصناعى وتحقق فيه انجازات كبرى وتحقق معدلات التنمية (كاليابان وهى بحجم ولاية كاليفورنيا ولديها كثافة سكانية على رقعة أرض محدودة، وجزيرة سنغافورة، وماليزيا) إن الأمم التى تريد أن يكون لها مكان تحت الشمس فلابد أن يكون لها نصيب فى كعكة هذا التقدم العلمى الصناعى، والأساس فى ذلك الاستثمار فى الإنسان (التعليم) وهذا ما سنتناوله إن شاء الله فى حلقة قادمة.
وعلى هذه الخلفية فإن ملامح نهضتنا الصناعية تقوم على:
* القيام بعملية إنقاذ لما تبقى من المصانع التقليدية سواء فى القطاع العام أو الخاص وتقديم كل أشكال العون لها باعتبارها نواة الصناعة الوطنية التى سننطلق منها.
* ضرورة تكثيف البحث للانطلاق فى مواكبة الثورة التكنولوجية فى مجالات الصناعة المتقدمة، والبدء من حيث انتهى الآخرون، كما فعلت التجارب التنموية فى آسيا.
* تعميق عملية التصنيع بمعنى تصنيع الآلات مستلزمات الإنتاج وعدم الاسترخاء والاكتفاء باستيرادها من الخارج.
* الجمع بين مستويات تكنولوجية مختلفة بين المشروعات كثيفة العمالة، والمشروعات قليلة الكثافة والتى تعتمد أكثر على "الأوتومية" أى على العمل الآلى، وذلك لمعالجة مشكلة البطالة.
* إعطاء أهمية قصوى للصناعات الصغيرة والمتوسطة مع دمجها فى المنظومة الصناعية ككل، وذلك بقيام بعضها بأجزاء من العملية الإنتاجية للصناعات الكبرى، وبقيام البعض بسد الاحتياجات الاستهلاكية فى بعض المجالات حتى تتفرغ الصناعات الكبرى لما هو أهم وأكبر تعقيدا (الصناعات الصغيرة تمثل 40% من الإنتاج الصناعى فى الهند وتشكل 35% من صادرات البلاد!).
* المهمة الأولى للصناعة التحويلية تلبية المطالب الضرورية للشعب قدر الإمكان، من غذاء وكساء ومواد للبناء وأدوية ومتطلبات الدفاع الوطنى. ولا يتنافى هذا مع مراعاة المزايا النسبية للاقتصاد المصرى، وميزة التخصص فى أفرع معينة تمكننا من زيادة التصدير.
* إعادة النظر فى أوضاع الاستثمار الأجنبى الصناعى القائم أو المحتمل على أساس دمج أنشطته قدر الإمكان فى الخطة الوطنية العامة للتصنيع، وإصدار التشريعات الملائمة التى تحقق ذلك.
* ولكى نحقق أعلى معدلات ممكنة من النمو الصناعى، ينبغى تقديم الحوافز والضمانات لأصحاب المدخرات والمنظمين، باعتبارهم رأس الحربة فى التنمية المنشودة، وبدون إخلال بمبدأ السيادة للاستثمار الفردى والملكية الفردية، فإن على الدولة أن تبادر إلى الاستثمار المباشر فى أية مشروعات ضرورية يتردد القطاع الخاص فى القيام بها.
* كما فى مختلف المجالات الأخرى، فإن التكامل والتنسيق مع البلاد العربية والإسلامية فى المجال الصناعى ضرورى لفائدة جميع الأطراف من أجل تحسين الإنتاجية وتوزيع الأدوار والتخصصات، وزيادة حجم التبادل التجارى، وتبادل الخبرات.
الطاقة - والثروة المعدنية:
أصبحت الطاقة من أهم المسائل التى تشغل الأمم الجادة فى الحفاظ على عملية التنمية والازدهار الاقتصادى عموما، فهى المحركة للنشاط الصناعى والزراعى وكافة مناحى النشاط الإنسانى, وقد ازداد الانشغال بهذه القضية مع التقارير المتوالية عن بداية هبوط منحنى الإنتاج البترولى (الزيت - الغاز) فى وقت قريب تقدره بعض التقارير الدولية بعام 2030 وقد أشرنا من قبل إلى جريمة الإسراف فى تصدير البترول حتى دخلت مصر فى البلدان المستوردة له. لذلك يتعين إقرار سياسة تقوم على أساس وقف تصديره, لإطالة أمد الاستفادة بالمخزون الوطنى, ولإقامة فرصة أكبر لتوفير البدائل التى تحتاج لجهد علمى وإنفاق استثمارات كبيرة فى هذه المجالات البديلة. ويتعين استخدام المخزون المتوفر من الزيت والغاز, فى نهضة صناعية شاملة, وأن تشكل الصادرات الصناعية وغيرها من المنتجات مصدرا أساسيا لزيادة الصادرات، تعويضا عن تصدير الخام البترولى, وهذا يعود بعائد أكبر بكثير على الاقتصاد, لأن المنتجات المصنعة أعلى سعرا وربحية من المواد الأولية كقاعدة عامة. وبطبيعة الحال لابد أن يكون خفض الصادرات البترولية تدريجيا حتى لا يحدث خلل مفاجىء كبير, فى الميزان التجارى, وفى نفس الوقت لابد أن تكون خطة التخفيض قصيرة المدى, لوقف جريمة استنزاف مواردنا المحدودة. وفى نفس الوقت لابد من تطوير إمكانياتنا الوطنية فى مجال البحث والتنقيب وكافة حلقات الإنتاج البترولى وصولا إلى التكرير, والتوقف عن قبول الشروط المجحفة للشركات البريطانية والأمريكية, وفى المقابل يمكن الاستعانة بخبرات صينية وماليزية حتى نمتلك القدرة والخبرة على الإنتاج بإمكانياتنا وخبراتنا الوطنية وهى ليست بالقليلة, وقد بدأنا العمل فى هذا المجال منذ عقود من السنين.
اتجاه عشرات الدول إلى إنتاج الطاقة النووية لتوليد الكهرباء لم يكن من قبيل الترف, بل لأنها لا تمتلك موارد بترولية, أو تخشى تناقصها ولذلك أصبحت المفاعلات النووية المصدر الثانى للطاقة بعد البترول وهى تغطى 80% من احتياجات فرنسا, كما يتزايد اعتماد اليابان عليها, ورغم أن تكلفة بناء المفاعل كبيرة إلا أن تكلفة بنائها ليست كبيرة على المدى الطويل لأن عمر المفاعل 60 سنة وتقدم طاقة نظيفة, مع مراعاة إجراءات الأمان التى شهدت تطورا كبيرا. وكما قال أحد الخبراء العالميين فإن مصر متأخرة فى هذا المجال ستين عاما, وفرطت فى كوادرها العلمية بسبب عدم وجود مشروعات نووية, وهو الأمر الذى أدى لهجرات متوالية للعلماء والمتخصصين رغم أننا بدأنا فى الخمسينيات من القرن الماضى دخول هذا المجال, وكنا متقاربين من حيث المستوى العلمى - التقنى مع إسرائيل. وتوقفنا عند مفاعل أنشاص للأبحاث وهو مفاعل عفى عليه الزمن, ثم أضفنا مفاعل أرجنتينى صغير للأبحاث أيضا. وتم وقف مشروع مفاعل الضبعة لأكثر من عشرين عاما, وعندما أعلنت الحكومة عن سياسة إنشاء المفاعلات عام 2006 لم تفعل شيئا حتى عام 2010, وهذا وقت ثمين ضائع لأن بناء المفاعل يحتاج إلى 10-15 سنة, ويحتاج الأمر إلى إعادة تنشيط وتهيئة العلماء وتدريب الكوادر المتخصصة. إلا أن أخطر ما فى الأمر أن المشروع النووى المقترح يقوم على أساس استيراد الوقود النووى دون اللجوء لتخصيب اليورانيوم على أرض مصر, وإذا قام المشروع النووى على ذلك فستكون كارثة محققة, لأن الوقود النووى (القائم على تخصيب اليورانيوم) هو روح المفاعل النووى, فإذا كان مستوردا من الخارج, فإن ذلك يضع مصر تحت رحمة القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة, لأن المفاعل النووى بدون وقود يتحول إلى مبنى لا قيمة له. وإذا حدث ذلك فستكون كهرباء مصر وطاقتها مرتبطة بقرار أمريكى, وهو أمر لا مثيل له فى التاريخ, لأن البترول كان يمكن استيراده من دول عربية صديقة عربية أو إسلامية أو لاتينية، ولكن الوقود النووى لا يوجد له سوق عالمى يمكن شراؤه منه, ولا تزال أمريكا ودول الغرب تتحكم فيه. وهذا هو جوهر الأزمة مع إيران التى تريد تخصيب اليورانيوم محليا وهو أمر يتفق مع المعاهدات الدولية. لذلك فإن من مصلحة مصر الوطنية أن تقف بقوة مع الموقف الإيرانى, لأنه يتعين عليها أن تسير فى طريق إيران إذا كانت تريد الحفاظ على استقلالها فى مجال الطاقة, ولا استقلال بدون مصادر مضمونة ووطنية للطاقة. بل ستكون مسألة الوقود النووى هى أداة الاستعباد الحديثة للأمم المستضعفة.
ولكن بالتوازى مع اقتحام مجال الطاقة النووية التى تقدم كميات وفيرة من الطاقة وتم اختبارها فى عشرات الدول, لابد من اقتحام مجالات الطاقة البديلة التى لم تعد مجرد أفكار فى مجال الأبحاث, بل بدأت الأمم المتقدمة شرقا وغربا فى استخدام الرياح كمصدر للطاقة, واستخدام الطاقة الشمسية على نحو متسارع, ونحن أكثر البلاد المهيئة لاستغلال الطاقة الشمسية لتوفرها فى بلادنا, وهى طاقة نظيفة ورخيصة. كذلك يجب إعادة دراسة مشروع منخفض القطارة الذى يمكن أن يشكل مصدرا كبيرا لتوليد الكهرباء بأسلوب المساقط المائية.
(ملاحظة: من أهم علامات تفوق الصين على الولايات المتحدة الآن أنها تنفق استثمارات أكبر فى مجال الطاقة البديلة).
وإهمال الطاقة الشمسية فى مصر أمر بالغ الغرابة لأن مصر من أكثر بلاد العالم تمتعا بالشمس فهى تتمتع بأشعة شمس مباشرة أكثر من 300 يوم فى السنة, ووفقا لتقديرات العلماء فإن الطاقة الشمسية يمكن أن تغطى 20% من احتياجات الطاقة فى بلادنا على الأقل.
والشائع أن الطاقة الشمسية ممكنة للاستهلاك المنزلى, وإن صح ذلك فهذا ليس بالشىء القليل لأن 40% من استهلاك الطاقة فى مصر فى الاستخدام المنزلى، فى حين لا تستهلك الصناعة سوى 32%, ومع ذلك فإن الواقع قد تجاوز ذلك لأن الطاقة الشمسية تستخدم الآن فى مجالات أوسع من الاستهلاك المنزلى, فهى تستخدم الآن مثلا فى إنارة الشوارع فى ألمانيا وعالم مصرى وراء ذلك! كما أن السخانات الشمسية يمكن تصنيعها محليا وبأسعار زهيدة تصل إلى 1500 جنيه للمنزل الواحد ثم بعد ذلك تصبح الطاقة مجانا طول العمر، إلا من بعض الصيانة. وقد تم استخدام 200 ألف سخان شمسى منذ إنشاء المدن الجديدة فى أواخر عهد السادات, ولكن بمجرد ظهور بعض المشكلات الفنية البسيطة تم هجر هذه السخانات, بل وتم هجر هذا المجال كله بدلا من مواجهة هذه المشكلات، بينما تحولت الطاقة الشمسية إلى صيحة العصر فى العديد من دول العالم وبدأت تسد جزءا مقدرا من احتياجاتها للطاقة.
وقبل الطاقة الشمسية استخدمت البلاد الأسيوية الناهضة "البيوجاز" أى الطاقة المولدة من روث الحيوانات ومخلفات الإنسان فى القرى التى تنتج غاز الميثان للاستعمالات المنزلية. وفى سنوات السبعينيات من القرن العشرين كانت الهند تحرق نحو ثلث مليار طن من روث البقر سنويا مما غطى أكثر من نصف الاحتياجات المنزلية من الوقود. ثم انتقل الأمر إلى نطاق أوسع من خلال مصانع كبرى لإنتاج كل من السماد العضوى ووقود المنازل. كما توسعت هذه التجربة فى الصين فى ذلك الوقت حتى تم إنشاء 5 ملايين مصنع لإنتاج البيوجاز والسماد. (العالم الثالث غدا - بول هاريسون - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2001).
أما القمامة (التى نحتار فيها) فهى بدورها مصدر لتوليد الطاقة، حيث ظهرت فى الولايات المتحدة مصانع تعتمد فى استهلاكها للطاقة على استخدام غاز الميثان المنبعث من مقالب القمامة.
وهكذا فان الأمم الجادة فى التنمية, والمصرة على الاكتفاء محليا من الطاقة تسعى فى كل المجالات ولا تنتظر يوم نضوب البترول (زيت وغاز) ولا تريد أن تعتمد على الطاقة النووية فحسب, بل تنوع من مصادر الطاقة النظيفة والرخيصة والمتجددة بحيث لا تتعرض لمخاطر النضوب .
كما ظهر مصدر جديد للطاقة من المحاصيل الزراعية كالذرة والسكر والتى تولد مادة الإيثانول, والبرازيل تستخدم هذا المصدر على نطاق واسع لإنتاج البنزين. وهذا الاتجاه خطر لأنه يؤدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية, ويؤدى إلى زيادة الفجوة الغذائية فى العالم, لذلك هناك اتجاه لزراعة أنواع أخرى من النباتات غير الغذائية التى يمكن توليد الطاقة منها, ومن مزايا هذه النباتات أنها يمكن أن تزرع فى الصحراء وتروى من مياه البحر, وهى مناسبة جدا لظروف مصر.
رحمة الله واسعة, وخزائن الأرض لا تنفد من خيرات الله, والحضارة البشرية لن تندثر بسبب زيادة السكان كما تصور مالتوس, ولا من تآكل الموارد, ولكن الخطر الرئيسى على البشرية من الظلم والاستكبار والاستئثار.. أما نحن فى مصر فنعانى فى موضوع الطاقة - كغيرها من الموضوعات - من حالة الشلل والكسل والعجز فى التدبير والبحث والحركة بسبب شيخوخة النظام. واقتحام كل هذه المجالات التى تبدو جديدة علينا, وهى ليست جديدة كلها فالفلاح كان يستخدم (الجِلة) كسماد وكوقود, اقتحام هذه المجالات بصورة علمية وتطبيقها بصورة شاملة فى مختلف أنحاء البلاد, تحتاج لعزيمة وإصرار وجهد وكل هذه خصائص غير متوفرة فى حكام لم يتعلموا سوى فنون السمسرة والمتاجرة فى أراضى الدولة, وإدارة توكيلات الشركات الأجنبية, وتصدير خام البترول (زيت - وغاز). أما بالنسبة للثروات المعدنية فإن توفيرها من عدمه لا يؤثر على مشروعات التنمية الصناعية, لأنه يمكن استيرادها بسهولة نسبية من الأسواق العالمية (تجربة اليابان), ولكن لا شك أن توفرها بالداخل يعطى ميزة اقتصادية فى توفير النفقات, وضمان التدفق. ومن الواضح أن النظام الحاكم لا يعطى لهذا المجال أى أولوية أو اهتمام رغم أهميته, ومسألة الثروة المعدنية ملحقة بوزارة البترول التى تنشغل بنسبة 95% بمسائل البترول. ولا توجد حتى الآن خريطة جيولوجية موثوق بها لحجم ونوعية الثروات المعدنية فى بلادنا, لعدم الاستخدام الأمثل لعمليات الاستشعار عن بعد, وعدم وجود برنامج من الأقمار الصناعية للقيام بهذا الاستكشاف, وقد أصبحت الأقمار الصناعية الوسيلة الرئيسية فى هذا المجال. وهذا يشير إلى ضرورة اقتحام هذا المجال بقوة: أى تصنيع الأقمار الصناعية محليا, ولدينا الكفاءات القادرة على ذلك, ولكننا لم نؤسس بعد مؤسسة لعلوم الفضاء. ونكتفى بشراء الأقمار بطريقة تسليم المفتاح وبعد فقدان القمر إيجيبت 1 من إنتاج أوكرانيا فإنه لا يوجد الآن أى قمر صناعى يقوم بدور المسح الجيولوجى لأراضى مصر.
كانت خطة العلماء المصريين بريادة د. بهى الدين عرجون (ويشرفنا أنه كان عضوا بحزب العمل) أن يتعلم علماؤنا من الأوكرانيين تقنيات تصنيع القمر الصناعى وقطعوا شوطا لا بأس به, ولكن الدولة لم تقرر أى تمويل لصناعة القمر الصناعى ايجيبت 2, للاستشعار عن بعد, وكان من المفترض أن يلحق بالأول قبل انتهاء عمره الافتراضى (3 سنوات), ولم يصدر قرار بإنشاء هيئة لعلوم الفضاء حتى الآن, وهو الأمر الذى أدى إلى تسرب العلماء والخبراء إلى أعمال أخرى. وعدنا مرة أخرى إلى نقطة الصفر.
(راجع كتابى: هموم الأمة, فى الفصل الخاص بتاريخ مصر المعاصر فى محاولة دخول عصر الفضاء).
ملاحظة: لا يوجد فى منطقتنا من يصنع الأقمار الصناعية ويطلقها بإمكانياته الذاتية ويتابعها إلا إسرائيل وإيران!