شريط أخبار موقع حزب العمل الإسلامى

Tuesday, April 5, 2011

لماذا حزب العمل؟ (7) خصوصية الوضع الإقليمى والدولى لمصر


الحلقة السابعة: خصوصية الوضع الإقليمى والدولى لمصر والكيـان الصهيـونى والقضيـة الفلسـطينيـة

ما زلنا نواصل رسم الخريطة المحيطة بمصر. والتى تحدد إلى حد كبير دور مصر ومكانتها الإقليمية والدولية. والجغرافيا هنا بالغة الأهمية، فلو كانت مصر فى أواسط أفريقيا أو فى أطراف الوطن العربى، لكانت بلدا آخر بشخصية أخرى ودور تاريخى مختلف, فكما أن الإنسان لا يختار جاره ولا يختار والديه, فإنه لا يختار وطنه ولا موقع وطنه. ولابد أن يدرسه ويفهمه كما هو, ويعلم إمكاناته كما هى، ونقاط القوة والضعف فى هذا الوضع الجغرافى سواء من حيث تركيبة الخريطة الإقليمية المحيطة به, لأنها البيئة الإجبارية التى يتعين عليه أن يعيش وسطها, أو من حيث الجغرافية الداخلية للوطن, وما ينطوى عليه من ثروات.

ولمصر وضع شديد الخصوصية إلى حد التفرد فى وضعها الإقليمى والدولى, لا يمكن للوطنى المصرى أن يحترم بلده دون أن يفهم هذا الوضع, وقد أشرنا إلى أطراف من ذلك خلال الحديث عن خصوصية مصر وعروبتها وإسلامها, وسنبدأ من الوضع المعاصر, ثم نلقى بعد ذلك نظرة على التاريخ من هذه الزاوية.

بعد كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل جرى فى البلاد حوار واسع حول القضية الفلسطينية, وهى الوجه الآخر للعملة (الكيان الصهيونى)، وهل هى قضية مفروضة على مصر, أو يمكن لمصر أن تتخلص منها وتبحث عن مصالحها الخاصة؟

والحقيقة فإن هذا حوار شاذ, وما كان يمكن أن يطرح على هذا النطاق الواسع إلا بسبب استسلام السلطة الحاكمة أمام الحلف الصهيونى - الأمريكى, واستخدامها الإمكانات الإعلامية الكبرى للدولة فى تبرير هذا الاستسلام، ومن ذلك طرح القضية الفلسطينية فى أحسن الأحوال كقضية خارجية, أو باعتبارها مسألة أضرت بمصر, وأنها مسئولية الفلسطينيين وحدهم، وهم المسئولون عن ضياع فلسطين، وعلى مصر أن تبدأ الاهتمام بشئونها ولا تلقى بالا كثيرا لما يسمى الشئون الفلسطينية أو العربية، وبالتالى فإن العداء مع إسرائيل كان مرحلة وانتهت, وهى الآن مجرد دولة جارة وصديقة يتعين التعاون معها وأن نتجنب شرها لأنها أقوى منا بكثير، وأمريكا وإن كانت قد أصبحت صديقتنا فهى أقرب لإسرائيل مننا.

نقول لولا سيطرة السلطة على الإعلام ما كان لهذا التصور السابق أن ينتشر بين العامة من الناس ويأخذ الحجم الذى أخذه.

وهذه رؤية حزب العمل للقضية الفلسطينية والموقف من الكيان الصهيونى:

فلسطين قضية عقائدية:

إذا كانت الأمة متمسكة بدينها الإسلامى فإن مسألة تحرير فلسطين من الغزو الصهيونى الاستيطانى مسألة بديهية لا تجوز أن تخضع للمناقشة من حيث المبدأ. فنحن أمام ديار إسلامية تعرضت لغزو واغتصاب واستيطان استهدف طرد أهالى المسلمين فى إطار مشروع يهودى صهيونى لإقامة دولة يهودية، وقد جىء بهؤلاء اليهود من شتى أصقاع الأرض, ولم تكن ولا لواحد منهم صلة بفلسطين, ولكن لمجرد الإدعاء الدينى أن فلسطين هى أرض الميعاد.

وهذا العدوان اكتمل بتأسيس الكيان الصهيونى عام 1948. وهذا الاستيلاء على أراضى المسلمين جـريمة لا تسـقط بالتقادم بل إن الكيان الصهيونى تحول - بتحالفه مع الغرب وأمريكا - إلى حالة عدوانية دائمة على العرب والمسلمين. فهذا الكيان لم يأت ليستقر على جزء أو كل أرض فلسطين, بل يريد أن يفرض سطوته على المنطقة بأثرها: عدوان 1956، عدوان 1967 ضرب أعماق مصر - ضرب المفاعل النووى العراقى - احتلال لبنان - بعد سيناء والجولان والضفة وغزة، وهو يهدد بضرب السد العالى بالقنابل النووية، وأخيرا يهدد بضرب البرنامج النووى الإيرانى، بعد أن ضرب البرنامج النووى السورى. المهم أننا إزاء حالة من العدوانية المستمرة على الأمة العربية والإسلامية، وفى نفس الوقت لا يتوقف عن اضطهاد وقتل وتشريد الفلسطينيين والتهديد المستمر بهدم المسجد الأقصى.

وهناك إجماع بين علماء المسلمين على عدم الاعتراف بهذا الكيان، ورفض التطبيع معه وضرورة العمل على تحرير فلسطين كفريضة جهاد. وإذا لم يتمكن أهل فلسطين من تحريرها يصبح تحريرها فرض عين على الدول المجاورة لها وعلى رأسها مصر, بحكم وزنها, وبالتالى فإن أقصى ما يمكن أن نقدمه لإسرائيل هو هدنة مؤقتة، فالهدنة العسكرية جائزة شرعا ولكنها لا تستمر 30 سنة، وإن جاز أن تستمر فلا يجوز إقامة تعاون اقتصادى وثيق كما هو الحال الآن: اتفاقية الكويز - بيع الغاز الطبيعى والبترول - تعاون زراعى وسياحى - تعاون فى حصار غزة!! كل هذه التعاملات خروج صريح على ثوابت الشريعة الإسلامية, لأن فى كل ذلك تعزيز وتثبيت للكيان المعتدى على فلسطين, والذى يواصل تهديد وضرب الدول العربية وإيران، وهو سقوط فى جريمة موالاة الأعداء، وبالإضافة لكل ذلك فإن فلسطين ليست ديارا إسلامية عادية، إنها الأرض المقدسة والمباركة فى القرآن الكريم, وهى مكان المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أولى القبلتين وثالث الحرمين.

فلسطين قضية عربية:

وحدة العرب ضرورة للوحدة الإسلامية الكبرى, وقد نجح الكيان الصهيونى فى تقسيم الوطن العربى إلى قسمين, ومنع امتداد الأراضى بين المشرق والمغرب العربيين. بل مارس الصهاينة ضغطا على السلطات المصرية لوقف مشروع الجسر بين مصر والسعودية، واستجابت السلطات المصرية رغم أنه كان سيحل مشكلة التواصل الأرضى العربى بين المشرق والمغرب. وتمارس إسرائيل دور الإسفين بين الدول العربية لمنع تواصلهم واتحادهم، وتطرح مشروع السوق الشرق أوسطية فى مواجهة السوق العربية المشتركة, أو مشروع البحر المتوسط.

ورغم أن مشروع السوق الشرق أوسطية لم يعلن رسميا بعد انعقاد عدد من المؤتمرات الدولية حول ذلك، إلا أن مضمونه قد تم تنفيذه، فهناك الآن سوق مشتركة حقيقية بين مصر والأردن وإسرائيل تحت لافتة الكويز بحيث تدخل صادرات مصر والأردن السوق الأمريكى بدون جمارك طالما فيها نسبة مكون إسرائيلى. ولكن التعاون بين مصر وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل، أوسع من ذلك بكثير فى علاقات التعاون الثنائية. وهناك علاقات تعاون اقتصادى سرى بين إسرائيل وكل من المغرب وتونس ودول الخليج كما تسللت شركات إسرائيلية إلى العراق تحت مظلة الاحتلال الأمريكى, وبالإضافة للدول فإن إسرائيل تقيم علاقات وثيقة مع حركة التمرد فى جنوب السودان ومع بعض الحركات فى دارفور، بالإضافة لأكراد العراق. وقد قامت إستراتيجية إسرائيل على محاصرة الوطن العربى من أطرافه عن طريق توثيق العلاقات مع إثيوبيا وأوغندا وإريتريا وسابقا مع إيران فى عهد الشاه، وتركيا التى تتعرض العلاقات معها للانهيار حاليا.

ولكن إستراتيجية إسرائيل قامت على حصار الوطن العربى من خارجه عن طريق دول الجوار، وهذا ما يعطيها الآن يدا قويا فى التحكم فى منابع النيل. وبالفعل فقد تحولت إسرائيل إلى سرطان فى المنطقة العربية, من ناحية تستنزف القوى المالية والعسكرية للدول العربية, وتسعى من ناحية أخرى إلى إضعاف وتمزيق الروابط الوحدوية، بل تسعى لتفتيت كل بلد عربى على حدة (لبنان - السودان - العراق كأبرز أمثلة).

فلسطين قضية مصرية:

مصر هى المؤهلة بطبيعتها لقيادة المنطقة العربية, وأن تكون دولة محورية فى إقليمها، لذلك فإنه عندما تم زرع الكيان الصهيونى فى قلب المنطقة وعلى حدود مصر بمساندة شاملة من قوى الغرب والولايات المتحدة، فإن هذا الكيان قد زرع ليقود المنطقة فى اتجاه الأهداف المشتركة الصهيونية - الغربية, ولذلك فإن أكثر بلد أضير من تأسيس إسرائيل هو مصر، لأن إسرائيل جاءت لضرب زعامتها ولسحب البساط من تحت أقدامها، واستنزافها ماليا وعسكريا وعدم السماح لها بتجميع العرب حولها، أما قيادة إسرائيل فى المنطقة فسوف تتم بالسطوة العسكرية أولا, ثم بفرض مشروع التعاون الاقتصادى, وضرب فكرة العرب والعروبة، والحديث عن منطقة الشرق الأوسط والشعوب الشرق أوسطية، والمتوسطية (نسبة للبحر المتوسط).

إذن مصر لا يمكن أن تمارس دورها الطبيعى القيادى فى المنطقة فى وجود إسرائيل. وعبر التاريخ كانت مصر وفلسطين (أو الشام عموما) كتلة واحدة ومصير واحد وإن فصلتهما صحراء سيناء والنقب. فمن يسيطر على ضفة لابد أن يلحق به الضفة الأخرى، والأقوى هو الذى يتمكن من ذلك.

فى قصص الأنبياء المؤكدة أو شبه المؤكدة نجد العلاقة التاريخية بين مصر وفلسطين. نجد سيدنا إبراهيم ينتقل من العراق إلى الشام وفلسطين, ويذهب إلى الجزيرة العربية مرورا بمصر. ويتزوج هاجر المصرية التى تقول الروايات أنها من سيناء (من قرية أمام الفرما على البحر المتوسط) وفى القرآن الكريم نرى سيدنا موسى وكيف انتقل من مصر إلى سيناء فى اتجاه فلسطين (الشام). عيسى عليه السلام يروى أنه زار مصر طفلا مع أمه حرصا على حياته ثم عادت به إلى فلسطين. البلد الوحيد الذى زاره سيدنا محمد قبل البعثة هو الشام, ويقال أن خط هذه الرحلة كان يمر بغزة، وهذا بسبب وفاة جده هاشم فى غزة ودفنه هناك. ولكن رسول الله تزوج من مصرية (مارية) وكاد أن يكون له منها ولد (إبراهيم), وقد أوصانا بمصر كثيرا, ومصر هى البلد الوحيد فى العالم المذكور بالاسم فى القرآن الكريم (راجع التفاصيل فى دراستى "سنن التغيير فى السيرة النبوية"). والشام حين يذكر فيعنى أساسا فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، فمصر وفلسطين أو مصر والشام صنوان لا ينفصلان مصيرهما واحد دائما. فى العهد المصرى القديم (الفرعونى) كان الشام جزء لا يتجزأ من الدولة المصرية عندما تكون فى حالتها القوية المعتادة، وعندما تضعف وتضطر للانكماش وترك الشام، فإن أى طرف قوى يسيطر على الشام يتجه للسيطرة على مصر. وكانت فلسطين هى الأكثر ارتباطا بمصر من حيث الجوار, ولذلك فى بعض الأحيان كانت حدود مصر تصل إلى القدس.

إذا نظرت إلى الخريطة فستجد مصر وفلسطين امتدادا واحدا, يمثلان معا ما يسمى ملتقى القارات الثلاث, وبالفعل كانت مصر وفلسطين معا وكأنهما نقطة المنتصف فى العالم القديم, والنقطة الفاصلة بين الشرق والغرب. ومن حيث هذه الأهمية الجغرافية فهما كتلة واحدة لا تتجزأ ولا يفيد السيطرة على طرف دون آخر.

عندما كان يضعف النظام المصرى كان يحكمنا قادمون من المشرق: الهكسوس، الآشوريون، الفرس، فكل من كان قويا فى الشام لابد أن يتطلع لاستكمال سيطرته إلى مصر.

وعندما جاء الإسكندر الأكبر من الغرب إلى مصر, امتد بقوته إلى الشام, فقد كان ذلك ضروريا وإجباريا حتى يصل إلى الهند. وكان البطالمة الذين ورثوا الإسكندر يحكمون مصر والشام, والرومان من بعدهم فعلوا نفس الشىء.

وفى الفتح الإسلامى لم يكد العرب يستقرون فى القدس وفلسطين حتى أدركوا أنه لا يمكن الاستقرار فيها والرومان فى مصر، فجاءت فكرة فتح مصر. ومنذ ذلك التاريخ ظلت مصر وفلسطين (أو الشام) معا فى ظل الدول الإسلامية المتعاقبة قد ينفصلان, ولكن كان يستمر سعى أحد الطرفين لإعادة ضم الطرف الآخر.

وظلت القوى الخارجية تدرك الترابط بين مصر وفلسطين، فالحملة الصليبية ما كادت تستقر فى فلسطين حتى شعرت بأن ظهرها سيظل مكشوفا بدون إخضاع مصر وتعددت الحملات الصليبية لغزو مصر, ولكنها باءت عموما بالفشل (بحريا وبريا) وكانت مخاوف الصليبيين فى محلها تماما، فقد كانت الضربة القاضية لهم من مصر.

وعندما اكتسح التتار من أقصى شرق آسيا البلاد حتى الشام لم يجدوا معنى لتوقف حملتهم إلا فى مصر! ولكن كانت هزيمتهم فى عين جالوت.

وعندما جاءت حملة نابليون إلى مصر واصل الطريق إلى فلسطين, ولكنه فشل عسكريا. وحرص الإنجليز على احتلال فلسطين مع مصر. وعندما نشأ الكيان الصهيونى فى فلسطين عام 1948 اعتبر سندا للوجود البريطانى فى مصر، وظلت العلاقات الحميمة بين إسرائيل وإنجلترا حتى عام 1956 ثم ورثت الولايات المتحدة التحالف مع الكيان الصهيونى.

وباعتبار أن إسرائيل كيان غريب قليل السكان, فليس من المتصور عقلا أن يضم مصر بطريقة الاحتلال العسكرى، ولذلك تم الاعتماد على الولايات المتحدة لإخضاع مصر بوسائل التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانضمت مصر لفلسطين المحتلة (الكيان الصهيونى) تحت الإشراف الأمريكى. ففى هذا الصراع الأخير ضم الطرف الأقوى فى فلسطين (ولكنهم مع الأسف اليهود الصهاينة) مصر إليه. فمصر وفلسطين لابد أن يعيشا فى دولة واحدة أو منطقة نفوذ واحدة, وهما الآن تحت الاحتلال والنفوذ الصهيونى الأمريكى.

ويعلم الأعداء أن هذا الوضع غير طبيعى, وأنه مهدد فى كل لحظة بعودة مصر إلى حالتها الطبيعية, حيث لابد أن تسعى لاستعادة فلسطين الأصلية وطرد الغزاة الصهاينة، إذن فماذا هو الحل؟ الحل بالنسبة لهم هو إضعاف مصر إلى حد التدمير والتعجيز، وإبقائها على قيد الحياة دون أن تمتلك أى قوة أو إرادة أو أى إمكانية لاستعادة قوتها ولياقتها.

وهذه نقطة مهمة لابد من إدراكها, فالعلاقات مع أمريكا والغرب محفوفة بالكثير من المخاطر أكثر من أى دولة أخرى. فمثلا نجد فى تجربة النمور الآسيوية أن الاقتصادات الآسيوية فى هذه البلدان نمت وترعرعت رغم علاقات التبعية مع الولايات المتحدة، وهذا يرجع الفضل فيه للنخب الوطنية التى سعت من خلال الاقتصاد أن تحرر إرادتها السياسية تدريجيا، ولكن فى المقابل لم تكن يد الولايات المتحدة باطشة إلى حد قتل كل المبادرات الوطنية.

فى علاقات مصر مع الولايات المتحدة هناك ممنوعات عديدة, كتلك التى تفرضها أمريكا على أى دولة تابعة لها، ولكن هناك ممنوعات عديدة أخرى إضافية لضمان استمرار مصر عند مستوى معين من الضعف البنيوى. لماذا؟ لأنها هى البلد المجاور لإسرائيل, والذى يملك إمكانية التصدى لها وجمع العرب حول هذه المهمة. وتشارك إسرائيل مباشرة فى عملية إضعاف مصر عن طريق الشبكات الاقتصادية للصهيونية العالمية, ومن خلال عمليات التطبيع الضارة مع مصر كما حدث ويحدث فى المجال الزراعى (راجع تفاصيل حملتنا ضد يوسف والى فى كتاب "الخيانة: الملف الأسود للزراعة فى مصر").

أما بالنسبة للولايات المتحدة فإسرائيل هى الركيزة الأساسية لحماية مصالحها ونفوذها فى المنطقة, وإضعاف مصر ضرورة حتى لا تتزعم العرب ضد الوجود الأمريكى كما حدث فى عهد عبد الناصر، خاصة مع الأهمية الجغرافية للمنطقة، وما ظهر فيها من ثروات نفطية، وما يجمع أمريكا وإسرائيل من تحالف عقائدى (الصهيونية المسيحية) مرتبط بحماية دولة اليهود فى فلسطين وعاصمتها القدس (راجع التفاصيل فى كتابى: "أمريكا طاغوت العصر").

وهكذا فإن ما نجح فيه مهاتير محمد فى قيادة ماليزيا من الاحتلال إلى الاستقلال عبر النهضة التعليمية والاقتصادية، لا يمكن أن يتكرر فى مصر بنفس السهولة واليسر فى حالة وجود قيادة رشيدة مماثلة. مصر كتب عليها عبر التاريخ أن تبنى حضارتها ونهضتها تحت النار لأنها فى قلب العالم. لذا فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصر إعجازى بكل المعانى السياسية والتاريخية والإستراتيجية, إن فى مصر (خير أجناد الأرض وهم فى رباط إلى يوم الدين) وكذلك وصف مصر بأنها (أرض الكنانة) والكنانة هى جراب الأسهم! لذلك لم يكن من قبيل الصدف أن زعماء مصر الحقيقيين هم المحاربون (أحمس - رمسيس - صلاح الدين - قطز.. إلخ) وأفضلهم هو الذى جمع بين القتال وبناء النهضة الاقتصادية والعلمية.

وسواء فى ظل وجود إسرائيل أو قبلها أو بعدها, فإن هذا المربع من العالم الذى يضم مصر وفلسطين لا يمكن أن يترك فى حاله، ولا يمكن أن يكون بعيدا عن سيطرة القوى العظمى فى العالم, لأنه باختصار فى منتصف العالم ومحوره. وحتى بعد اختراع الطائرات والصواريخ فقد ثبت أن الموقع الجغرافى لا يفقد أهميته, فحتى الطائرة لابد أن تمر من الخطوط الأقصر، واستخدام الصواريخ فى الحروب لا يغنى عن استخدام القوات البرية، وقناة السويس لم تفقد أهميتها لأنها لا تزال أقصر الطرق البحرية بين الشرق والغرب.

وليس من قبيل الصدفة أن أحلام هتلر فى السيطرة على العالم بدأ انكسارها فى معركة العلمين, وأن كل القوى العظمى عبر التاريخ مرت من هذا المربع (فلسطين - مصر) واستقرت فيه، وأن علاقة الاتحاد السوفيتى بمصر عبد الناصر كان نقطة تحول فى زيادة نفوذ السوفيت عالميا. وإن الهيمنة الأمريكية على مصر والاحتلال الصهيونى لفلسطين هو رمز لهيمنة الحلف الصهيونى - الأمريكى على العالم. وإن كان النفوذ الأمريكى فى تراجع عام إلا أنه يركز ما تبقى من قوته على ما يسميها منطقة الشرق الأوسط، ومصر وفلسطين فى قلبها.

مصر وفلسطين إذن توأمان لا ينفصلان، ومصيرهما واحد، وأكبر خطأ تاريخى يمكن أن يقع فيه أحد التوأمين أن يظن أنه يمكن أن يخطط لمعيشته وحياته ومستقبله دون تنسيق على الأقل مع التوأم الأخر.

إسرائيل هى الغدة السرطانية التى تنهك جسد مصر (بعد فلسطين) ولابد من استئصالها (راجع دراسة: إستراتيجية تحرير فلسطين أصبحت واضحة المعالم - مجلة منبر الشرق - العدد 27), وإسرائيل أنهكت مصر فى السلام بأكثر مما أنهكتها فى الحرب، ففى السلام هناك ممنوعات عديدة على مصر: زراعة القمح حتى الاكتفاء الذاتى - المعرفة النووية - امتلاك أى سبب من أسباب القوة الاقتصادية أو العسكرية أو العلمية, فالفيتو الأمريكى الإسرائيلى هو الذى يعرقل تنمية سيناء وإعمارها بصورة حقيقية، حتى تبقى مخلخلة السكان منزوعة السلاح، وفاصل آمن بين مصر وإسرائيل، أيضا التقارب المصرى مع الدول العربية والإسلامية غير مطلوب خاصة الدول المستقلة عن الهيمنة الأمريكية: كسوريا وإيران والسودان. أما الدول العربية الأخرى فلم يعد لمصر أى أهمية لديها, فإذا كانت مصر تعمل تحت المظلة الأمريكية فهم أيضا يعملون تحت ذات المظلة، ولا يحتاجون مصر فى شىء, فخطوطهم مفتوحة مع واشنطن علنا، وتل أبيب سرا. وعندما تفقد مصر احترامها وهيبتها وزعامتها فى المنطقة، فإن ذلك ينعكس على مصالحها الوطنية المباشرة, فلا يعود لها أهمية حتى لدى الأشقاء، فالشقيق الأكبر لا يحصل على وزنه واحترامه فى الأسرة لمجرد كبر سنه، بل لابد أن يكون هو القائد الفعلى لأشقائه الأصغر بالدور الذى يقوم به.

وترى القوى العالمية أنها عندما تنهض مصر فإنها ستكون من أهم دول العالم, إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهذا ما حدث فى العهود الفرعونية والإسلامية. ومصر لا تنهض إلا بقيادة محيطها الإقليمى, وهو ما يجعلها فى أكثر مواقع العالم تأثيرا، ولذلك فإن القوى العالمية بعد انهيار الدولة الإسلامية الكبرى، دائما ما كانت تتربص بأى نهضة مصرية، فرأينا التحالف العالمى ضد تجربة محمد على، حتى بعد أن تحولت من مشروع عسكرى إلى مشروع نهضة اقتصادية وعلمية، ثم ما حدث من تكالب عالمى ضد تجربة جمال عبد الناصر.

وبالتالى فإنه ليس لدينا الخيار، فإذا أردنا أن ننهض بمصر إلى المكان الذى يليق بها فلابد من مواجهة التدخلات الأجنبية والصهيونية، ولابد من الجمع بين الجهاد والبناء، وعلى أى حال فهذا ليس بعيدا عن العقيدة الإسلامية, وهذا هو الحال فى كافة بلاد المسلمين، ولكن مصر كثغر مستهدف يتعين أن تكون فى حالة من اليقظة الدائمة, لأنها كما قلنا فى عين النار. ولابد من حشد وتجميع قوى وشعوب المنطقة ضد الغزاة والمتنمرين والكيان الصهيونى حاليا على رأسهم، حتى لا تواجه مصر المعركة الكبرى وحدها.

وقد يقول قائل بل لدينا خيار آخر هو الانطواء حول أنفسنا, نعيش ونأكل بدون صراعات. وإن جاز ذلك جدلا من الناحية الأخلاقية والدينية، فهو خيار غير واقعى إلى حد العدم للأسباب التالية:

- مصر ليست البلد الوحيد الذى يعانى من الصراعات الدولية، بل إن أى بلد معرض للتدخل الأجنبى، كما دخل هتلر هولندا وبولندا.. إلخ. كما تعرضت عشرات الدول لمواقف مماثلة.

- إن الانعزال عن المنطقة المحيطة بك نوع من الجنون لأنك ستحول بلدك بيديك إلى سجن، فأنت لابد أن تمر عبر الجيران من أجل التعامل مع العالم الخارجى. ولا توجد دولة عاقلة فى التاريخ أغلقت عليها الأبواب المحيطة بها وخاصمتها، إن هذا وضع لا وجود له فى تاريخ البشرية. ولذلك فإن الدعوة لمقاطعة العرب - بمناسبة مباراة كرة القدم أو غيرها مثلا! - هو حالة جنونية بالمعنى الحرفى، ولكن هذه الحالة الجنونية قادها الإعلام الرسمى المصرى.

- وحتى مع افتراض هذا الخيار اللاعقلانى (العزلة)، فإنه ونتيجة للأهمية المحورية لموقع مصر فإن الدول العظمى على مستوى العالم لن تتركه خاليا، بل ستسيطر عليه بكل الوسائل السلمية والحربية، وهذا هو ما حدث عبر التاريخ, فإما أن تستفيد مصر من موقعها لتعزيز قوتها ومكانتها ونهضتها أو تقوم قوى خارجية بالاستفادة من إمكاناتها وتستعبدها وتحولها إلى مجرد موقع تابع لها, وهذا ما تقوم به الولايات المتحدة حاليا مع مصر. وهناك وجود عسكرى أمريكى دائم فى مصر يزيد ويتقلص حسب الحاجة، وهناك 4 قواعد أمريكية صريحة وفقا للبيانات الأمريكية. ولكن ربما لا توجد لافتة تحمل هذا الاسم. وهناك تواجد لقوات جوية أمريكية فى قواعد مصرية. وهناك مناورات النجم الساطع التى تجرى كل عامين، والتى تتيح للقوات الأمريكية ترك معداتها على الأراضى المصرية، وهناك تسهيلات عسكرية دائمة يحق بموجبها للقوات الأمريكية استخدام الأراضى والأجواء والمياه المصرية فى أعمال عسكرية أو لنقل القوات (راجع كتابنا: "لا") وإذا أضفنا لذلك أن المعونة الأمريكية السنوية تتضمن 1.2 مليار دولار للأسلحة والتعاون العسكرى، وهذا يعنى ارتباط الجيش المصرى بالتسلح الأمريكى والتدريب الأمريكى والإمدادات الأمريكية وقطع الغيار.. إلخ, فمصر حاليا أشبه بمستعمرة أمريكية, والأمريكان متواجدون فى النخاع الشوكى للنظام السياسى، وعندما قال مصطفى الفقى (أحد رموز النظام) أن الرئيس المصرى القادم لابد أن يكون بموافقة أمريكا وعدم اعتراض إسرائيل، فإنه لم يتجاوز الحقيقة، ولخص الحالة البائسة التى وصلت إليها مصر.

إذن الخيار الثانى الافتراضى أن نرمى أنفسنا فى أحضان الدولة العظمى (الولايات المتحدة)، هذا كان خيار نظام السادات - مبارك, وهذه الحصيلة بعد خمسة وثلاثين عاما أن أصبح ترتيب مصر فى مؤشرات الاقتصاد والتنمية يتراوح بين 120- 123، وهى الحالة المتدهورة فى شتى المجالات بإحساس واعتراف الجميع, بينما سبقتنا عشرات الدول الآسيوية واللاتينية.

إذن الخيار الوطنى الصحيح والوحيد أن تعمل مصر من أجل نفسها ومن أجل أمتها، وأن تمارس دورها القيادى الذى فرض عليها فى الوطن العربى، ومن ثم فى العالم الإسلامى

No comments:

Post a Comment