شريط أخبار موقع حزب العمل الإسلامى

Monday, April 11, 2011

لماذا حزب العمل؟ (9) التنمية المستقلة



بعد هذه المقدمة العامة عن أحوال مصر الراهنة ننتقل إلى صلب الموضوع. لم يتطور أى بلد فى العالم فى الماضى, ولا فى الحاضر, ولن يتطور أى بلد فى المستقبل, إلا اعتمادا على ذاته وقواه الوطنية والخاصة. فكما يحدث على مستوى الأفراد فإن الإنسان الذى يريد أن يتفوق فى حياته عليه أن يبذل من الطاقة والجهد ليحقق ما يريد (ومن طلب العلا سهر الليالى). كذلك بين الأمم فلا توجد أمة تأخذ بيد أمة أخرى, وربما تكون هذه ظروف مساعدة, ولكن الأساس أن تتولى كل أمة شئونها بنفسها, وأن تكدح حتى تحصل على المكانة اللائقة بها بين الأمم.

كان يجرى فى مصر فى العقود الماضية حوار مكتوم هل من الأفضل لمصر أن تسير فى ركاب الاتحاد السوفيتى أم تسير فى ركاب الولايات المتحدة؟ والآن يجرى حوار مكتوم هل لدينا خيار الآن سوى مسايرة الولايات المتحدة والغرب؟

هذه الحوارات بين النخبة وبين الناس كانت تعكس حالة من الهزيمة النفسية, ولم يتصوروا أن مصر قادرة على النهوض بالاعتماد على سواعد أبنائها وعقول خبرائها, وأن هذه هى الخبرة الوحيدة للبشرية عبر التاريخ, والمسألة لا تتعلق بمصر دون باقى دول العالم. فهذا هو قانون النمو والتنمية. وقد تم ترويج أكذوبة حول أن أمريكا كانت وراء نهضة ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية, أو أنها كانت وراء النهضة الآسيوية. والحقيقة عكس ذلك تماما, فالولايات المتحدة لم تسع إلا إلى الاحتواء والهيمنة والسيطرة, وعدم السماح بأى نمو حقيقى ومستقل لأى أمة من الأمم. وهذه كانت السياسة الرسمية تجاه اليابان وغيرها عقب الحرب كما ورد فى قرار مجلس الأمن القومى الأمريكى رقم 48 لعام 1949 وهو ما سموه "التبادل والمنفعة المشتركة" وقدروا أن الأمم الأسيوية (لا تملك أى منها مصادر كافية للتصنيع العام), قد تستطيع الصين والهند واليابان (توفير قدر من الشروط الضرورية ولكن ليس أكثر من ذلك) واعتبرت أن آفاق اليابان محدودة تماما (قد تنتج بعض الخردوات وبعض المنتجات للعالم المتخلف وليس أكثر من ذلك). إذن عندما تحتل الصين واليابان والهند المراكز 2،3،4 على اقتصاد العالم الآن فإن ذلك قد جرى رغم أنف أمريكا وبإرادة وطنية صلبة داخل كل بلد من هذه البلدان.

وما حدث مع هذه البلدان الكبيرة تكرر مع النمور الآسيوية التى بدأت كلها تغزو الأسواق الأمريكية وتنافس السلع الأمريكية, ثم بدأ يحدث الآن مع دول أمريكا اللاتينية. وترى الدول العظمى عادة أن صعود قوى اقتصادية جديدة حتى وإن كانت على المستوى الإقليمى فإن ذلك يعد خصما من نفوذها الاقتصادى ومن سوقها العالمى. ولذلك فإنها لا تشجع مثل هذا النهوض, بل وتحاربه. وهذه الحرب تتزايد بالنسبة لبلد مثل مصر للأسباب التى أشرنا إليها من قبل, كما أن مصر هى القادرة على توحيد العرب (300 مليون), وهذا يحولهم إلى قوة عظمى, حيث سيكونون القوة السكانية الرابعة بعد الصين والهند والولايات المتحدة، إذا توحدت قوتهم الاقتصادية فسيتحولون من مستهلكين لسلع أمريكا والغرب إلى منتجين لسوقهم الكبير ثم بعد ذلك إلى مصدرين لغيرهم.

ولكن حتى بمنطق تنمية مصر وحدها فإن هذا الأمر لن يكون مرحبا به فى الغرب, لذلك لابد من التمرد على تعليمات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى عندما تتعارض مع خططنا الوطنية كما فعلت ماليزيا ودول أمريكا اللاتينية مؤخرا.

سيقول قائل كيف تسعى أمريكا إلى تخريب أو إضعاف مصر بينما هى تسيطر عليها ومن مصلحتها أن تزدهر مصر وهى فى كنفها لتكون نموذجا للآخرين؟!

ليس المقصود بالإضعاف أو التخريب أن تضرب مصر بالقنابل أو يتم تحطيم المبانى أو حدوث مجاعات أو انهيارات شاملة. المقصود هو وضع مصر (وأى بلد آخر مستهدف) فى إطار مشروع الهيمنة الأمريكى العالمى، وأن يكون لها دور صغير جدا فى إطار هذا المشروع، ولابد أن يكون ازدهارها شكليا (فنادق 5 نجوم - قرى سياحية - تحسين البنية التحتية.. إلخ) حتى تظل سوقا مفتوحة للبضائع الأمريكية (كوكاكولا - مكدونالد - ومبى - كنتاكى - جنرال موتورز - حلويات ومواد غذائية أخرى على رأسها القمح والذرة), وألا يزيد طموح مصر الاقتصادى عن بعض الصناعات الصغيرة والخردوات (كما فكروا بالنسبة لليابان!) أو باختصار كل المجالات الفرعية التى لا ترغب الولايات المتحدة فى تصديرها إليها حيث لا يمكن لها أن تلبى 100% من احتياجات السوق فلماذا لا تترك مثلا الأدوات المنزلية للصناعة المصرية؟!

وسأروى قصة حقيقية لتقريب صورة ما أقول للأذهان:

فى عام 1988 أو 1989 كنت فى زيارة رسمية للولايات المتحدة ضمن وفد من أعضاء مجلس الشعب المصرى, وكان فى برنامج الزيارة مقابلة مع المسئول عن المكتب المصرى بوزارة الخارجية الأمريكية (وكان سيدة) فى أثناء اللقاء طرح نواب الحزب الحاكم عليها أسئلة ساذجة: لماذا لا تقوم الولايات المتحدة بمشروعات كبيرة فى مصر حتى تكون عنوانا على عمق الصداقة المصرية - الأمريكية كما فعل الاتحاد السوفيتى مع مصر فى بناء السد العالى؟!

وقد ردت المسئولة الأمريكية ردا بالغ الأهمية إذ قالت لهم: لماذا أنتم مهتمون بالمشروعات الكبرى؟ أن اقتصاديات الدول لا تنمو بالضرورة بالمشروعات الكبيرة، لماذا لا تأخذوا من باكستان قدوة والتى برعت مؤخرا فى صناعة مضارب التنس! (وبالمناسبة لابد من الإشارة إلى أن الاتحاد السوفيتى ليس هو صاحب فكرة مشروع السد العالى, ولقد كان اختيارا مصريا وطنيا وكذلك فى التنفيذ والاتحاد السوفيتى قدم الخبرة والمشورة والمساعدة فى التنفيذ).

ولكن ما هى المبادىء أو الاشتراطات التى يتعين الالتزام بها لتحقيق التنمية المستقلة وهى التنمية الوحيدة التى تضعنا على الخريطة الحقيقية للعالم؟

أولا: استقلال القرار السياسى:

أى بحث فى الأمور الاقتصادية بعيدا عن الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة, وتصور أن الاقتصاد مجرد أمور فنية أو مفاضلة بين تصورات محض اقتصادية, فهذا المنهج فى التفكير أصبح مرفوضا فى كافة المدارس الاقتصادية. بينما كانت الرؤية الإسلامية دائما تضع الاقتصاد فى وضع التابع للتصور الأشمل للكون والحياة ومن ثم السياسة.

وأى حديث عن تنمية اقتصادية مستقلة لا يمكن أن يبدأ بشكل جدى وحقيقى إلا فى وجود سلطة وطنية تمتلك إرادة سياسية وعزيمة على رفض أى ضغوط أجنبية خارجية, وأى محاولة للهيمنة على القرار الوطنى المستقل, مع وضع الحواجز الكافية لمنع القوى الأجنبية من اختراق الدوائر العليا لاتخاذ القرار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَر) (آل عمران: 118).

وفى البلاد غير الواقعة تحت الاحتلال التقليدى, فإن اتخاذ هذا القرار بتحصين وتأمين القرار المستقل للنظام الوطنى لا يعنى ولا يؤدى حتما إلى حرب بالمعنى المسلح مع القوى العظمى, ولكنه لا شك يعرضها لمخاطر عديدة: حصار اقتصادى - مؤامرات لاغتيال رمز أو رموز النظام - محاولة تخريب الاقتصاد عن طريق التلاعب فى البورصة وأسعار العملات الأجنبية, وأسعار السلع عموما, وقد يصل الأمر إلى تهديدات عسكرية. ولكننا نحن هنا نتحدث عن استقلال الوجود الوطنى وهى مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا, ومسألة عقيدة, أما القوى الخارجية فإنها ستجبر إزاء الإصرار الوطنى الاستقلالى على التراجع والاعتراف بالأمر الواقع كما تفعل أمريكا الآن مع عشرات الدول المستقلة والتى تمردت على الهيمنة الأمريكية.

ولن يؤمن استقرار هذا الاستقلال السياسى إلا التفاف جماهيرى واسع يحمى النظام الوطنى ويدعمه دفاعا عن الوطن. فلابد للقوى الأجنبية أن تشعر أن البلد كله على قلب رجل واحد, بل لابد أن يكون الأمر كذلك بالفعل لسد الثغرات التى تنفذ منها القوى الخارجية المضارة من هذا الاستقلال.

ونحن هنا أمام التقاء طبيعى ومنطقى بين الرغبة الدفينة فى الحياة الحرة الكريمة وبين الخيار الاقتصادى الأفضل (التنمية المستقلة) وبالتالى فان الأمة ستكسب فى النهاية مهما كانت التضحيات فى المدى القصير.

(راجع المزيد من الآيات القرآنية حول ضرورة استقلال المجتمع المسلم ورفض موالاة الأعداء فى دراسة الاقتصاد الإسلامى).

ثانيا: دور الدولة فى التنمية:

اجمع الخبراء من الناحية النظرية وأجمعت التجارب العملية على أن أى تنمية اقتصادية ناجحة لا تتم بدون دور قيادى للدولة, وبالتالى فإن ما يروج فى بلادنا عن أن الاقتصاد الحر يعنى انسحاب الدولة من الاقتصاد, هو كلام عفى عليه الزمان حتى فى بلاد الغرب، وحتى قبل الأزمة الطاحنة الأخيرة (2008-2009). ومع ذلك فنحن نركز الآن من منظور التنمية: أى من منظور بلد تخلف عن ركب الحضارة ويريد اللحاق بها فى أسرع وقت ممكن.

التنمية (ونعنى دائما بها هنا التنمية المستقلة) ليس مجرد مشروعات توضع على الورق ثم يتم تنفيذها على أرض الواقع. التنمية الحقيقية التى تنقل البلد من حال إلى حال أشبه بالحرب التى تحتاج إلى قيادة مركزية حازمة ويقظة, وتحتاج إلى تعبئة شعبية, وحرارة فى التنفيذ, وشحذ للهمم، وتحتاج لتعديلات فى الخطة هنا أو هناك بناء على أى مستجدات تطرأ على الساحة.

ولا يمكن أن تتحقق التنمية بمجرد نشاط شركات عامة أو خاصة هنا وهناك بدون خطة تضع أولويات للعمل الاقتصادى الوطنى, وليس المقصود بالخطة تلك الخطط الجامدة التى كانت تنفذها النظم الشيوعية والتى حاكتها بعض الأنظمة العربية. التجارب الناجحة للتنمية اعتمدت على مجلس مركزى اقتصادى أو تنموى يضم ممثلى الحكومة ورجال الأعمال والهيئات الشعبية (كالنقابات). ويضع الخطوط العريضة للتنمية من زاوية أولويات التركيز, وهو لا ينشغل بالأمور الاقتصادية بالمعنى الضيق بل بكل نواحى الحياة الاجتماعية التى تنعكس على الاقتصاد، كتطوير التعليم وفى أى اتجاه مثلا. وهو يقرر فى أى المجالات الاقتصادية يجب التركيز ,وما هى القطاعات الرائدة التى يمكن أن تقود قاطرة الاقتصاد. وما هى المجالات التى إذا تخصصت فيها البلاد برعت. وهذا المجلس عادة ما تكون قراراته نافذة على جميع الأطراف. ولكنه يكون فى حالة انعقاد مستمر للمتابعة وتعديل المسارات, فهو لا يضع خطة خمسية ثم يعود بعد فترة ليضع خمسية تالية، كذلك فإن خطط هذا المجلس لا تكون بالضرورة رقمية فحسب, فهى تحدد الاتجاهات العامة، ولكنها لابد أن تضع بعض المؤشرات الرقمية فى بعض المجالات ولو بصورة تقريبية حتى تظل هناك أهداف واضحة لحركة التنمية. ولابد من إقرار وتجاوب شعبى واقتناع عام بها حتى يتحمس الجميع لتنفيذها، وبالتالى لابد للهيئات الشعبية المختلفة أن تكون موافقة أو متوافقة مع الاتجاه العام للخطة.

والدولة هى التى تصدر من خلال المجلس التشريعى التشريعات المحفزة لخطة التنمية، وهى القادرة على تعبئة الموارد فى الاتجاه المطلوب, وعقد الاتفاقات الدولية التى تخدم الخطة, وتضبط أسعار الصرف ومختلف السياسات المصرفية, وهى التى تملك السلطات والصلاحيات لتطوير التعليم, وخطط البحث العلمى.. إلخ.

وستظل الدولة هى العقل المركزى للمجتمع سواء فى فترة انطلاق التنمية أو ما بعد ذلك. وهذا مفهوم راسخ فى الاقتصاد الإسلامى.

بل لا يقتصر دور الدولة على دور القائد والمنظم فقد يستدعى الأمر, وهو يستدعى غالبا أن تشارك بنفسها فى إقامة المشروعات الإنتاجية الضرورية التى لا يقوم بها القطاع الخاص عن تقصير أو عجز. هذا بالإضافة لمسئولية الدولة المستديمة عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين خاصة وأن كثيرا منها قد لا يحقق ربحا.

ثالثا: إشباع الحاجات الأساسية:

تقوم نظرية التنمية المستقلة, على أساس بالغ الأهمية, وهو أن تكون الخطة أو الخطط المشار إليها تستهدف إستراتيجية محددة, وهى إشباع الحاجات الأساسية لجموع المواطنين وبهذه الرؤية يتم تحقيق عدة أهداف بحجر واحد:

1. فإذا تم إشباع الحاجات الضرورية للمواطنين من خلال الإنتاج المحلى فهذا سيؤدى إلى تخفيض هائل للواردات، ويوفر المزيد من العملات الأجنبية التى يمكن توجيهها لاستيراد أمور أكثر أهمية, كبعض المواد الوسيطة للصناعة أو شراء أجهزة ومعدات وماكينات وآلات, وإن كانت خطة التنمية لا تستبعد - بل تحتم - صناعة الآلات والماكينات, ولكن ليس بالضرورة إن تغطى ذلك منذ البداية، وقد تستمر البلاد فى المستقبل لا تغطى كل احتياجاتها من الآلات, وقد تتخصص فى مجالات دون أخرى.

2. إستراتيجية إشباع الحاجات الأساسية تتضمن أن توجه الموارد الوطنية وفقا لخطة رشيدة تراعى الأولويات. ولا تبدد ثروات البلاد فى أمور ترفية.

3. وهذا يؤدى إلى ربط التنمية بالعدالة الاجتماعية, بضمان رفع المستوى المعيشى للأغلبية, وتحقيق التقارب بين الطبقات, وعدم الانزلاق لنوع من التنمية المشوهة حيث تعانى البلاد من حالة من الازدواجية، قلة تعيش فى رفاهية تقترب إلى مستوى الغرب وتحظى بمعظم ثمار النمو, وأغلبية لا ينالها إلا الفتات.

4. هذه الإستراتيجية لها دور أساسى فى رفع مستوى القطاعات الإنتاجية وترسيخ أقدامها خاصة فى الصناعة, فكثيرا ما يتحدث الناس عن الصادرات, وينسون السوق المحلى, فى حين أن الشركات الصناعية الكبرى لم تغزو الأسواق العالمية إلا بعد استيعاب السوق المحلى, فالعمل فى السوق المحلى مرحلة مهمة للإعداد، وهو الذى يضع الأساس لأسلوب الإنتاج الكبير. فإذا أخذنا مصر كمثال فنحن أمام سوق من 80 مليون مستهلك, وهذا سوق كبير يكفى لإقامة صناعة كبرى وتحقيق أرباح هائلة, وهو يحتمل المنافسة بين عدة شركات فى كل مجال من مجالات الإنتاج, وهى المنافسة التى تحافظ على الجودة وتطورها, وتساهم فى خفض الأسعار. أما التنمية القائمة على تطوير قطاع صناعى للتصدير, فهى تؤدى إلى حالة من الثنائية الاقتصادية التى أشرنا إليها, أى تؤدى إلى خلق اقتصادين ومجتمعين داخل بلد واحد, قطاع صغير متقدم ماديا, والقطاع الأكبر متخلف.

وقد جمعت التجارب التنموية الأسيوية بين الأسلوبين, فخففت من مضار الاعتماد على قطاع صناعى مخصص للتصدير. أما فى مصر (السادات - مبارك) فلم نأخذ بأى من الأسلوبين, ولم تحدث أى تنمية فى أى اتجاه, بل مشروع هنا ومشروع هناك دون أى رؤية, وهذا هو أساس الانهيار الاقتصادى الراهن.

وليس معنى خيار التركيز على إشباع الحاجات الأساسية, استبعاد الاهتمام بتصدير السلع الصناعية, بالعكس فإن الاتجاه للتصدير يعنى أن السلعة قد وصلت إلى درجة معقولة من الجودة. ولكن هذا الاهتمام يأتى فى إطار التصور العام الذى يركز على أولوية إشباع الحاجات الأساسية, وبالتالى فإن القطاعات التى تنجز ذلك يمكن أن تتجه إلى التصدير, وهذا بنسب متفاوتة من قطاع لآخر. أما القائلون بالاعتماد على قطاع صناعى للتصدير, فهم يستهدفون الحصول على أرباح مالية بالعملة الصعبة, يمكن الاستفادة منها فى تنمية القطاعات المتأخرة, أو استيراد احتياجات المجتمع من الخارج على ضوء توفر العملات الصعبة من التصدير. ولكن خطورة هذه الخطة أنها تبدأ بالاعتماد على الخارج. فماذا لو أصابت الصادرات نكسة لأى سبب خارجى أو داخلى خارج عن الإرادة؟ وماذا لو لم تكف موارد الصادرات لاستيراد الاحتياجات من الخارج نتيجة ارتفاع أسعار الواردات المطلوبة. لذلك كما ذكرنا زاوجت التجارب التنموية الآسيوية بين الأسلوبين, فاهتمت بقطاع صناعى للتصدير, واهتمت بالسوق المحلى, ويتضح هذا عندما نعرف أن 80% من السيارات التى تسير فى ماليزيا هى إنتاج ماليزى, وأن معظم السيارات المستخدمة فى الهند من إنتاج هندى. وهكذا تجد الصناعات الوطنية واقفة على أرض صلبة لا تهزها ريح أى أزمة اقتصادية عالمية.

وقد برهنت الأزمة الاقتصادية الأخيرة على ذلك (وهى بالمناسبة أزمة أمريكية وأوروبية بالأساس) فقد تصور بعض المحللين أن الاقتصاد الصينى سينهار بدوره لنقص صادراته لأمريكا التى انخفضت قدرتها على الاستيراد. ولكن المؤشرات الاقتصادية برهنت على عكس ذلك, واتضح أن معدلات التنمية فى الصين تعتمد بشكل متزايد على الاستثمار فى الداخل, أى فى السوق الصينى العظيم, وأن نفس الظاهرة واضحة بالأرقام فى الهند. والأمور نسبية, فإذا كانت السوق الصينى والهندى ذات طابع مليارى! فإن مصر الـ 80 مليون فى وضع أفضل بكثير من بلد عدد سكانه 3 أو 5 مليون. ولكن من يشرح لحكامنا الأهمية الإستراتيجية لزيادة عدد السكان!! كذلك فإن مصر إذا كانت بصحة وعافية معتادة فإن السوق العربى (300 مليون) سيكون مرشحا ليصبح امتدادا للسوق المصرى.

تقرير الاونكتاد يؤكد ما نقول:

بعد الانتهاء من كتابة السطور السابقة صدر تقرير بعنوان (الأمم المتحدة تعلن نهاية التصنيع من أجل التصدير!!) والتقرير الإخبارى يلخص تقريرا صادرا عن الاونكتاد فى اجتماعها بالقاهرة، وهى منظمة تابعة للأمم المتحدة. ولأن التقرير يؤكد صحة ما ورد فى السطور الماضية, وأيضا لأهمية الموضوع لأن مسالة التصنيع من أجل التصدير مطروحة منذ سنوات فى مصر، وتنفذ بصورة فاشلة بالمقارنة مع تجارب أخرى. ننشر ملخصا كثيفا للتقرير الذى يقول:

لم يعد التصنيع من أجل التصدير هو الطريق لتحقيق النمو الاقتصادى للدول النامية. بل صار الاستهلاك فى الأسواق المحلية هو الدافع للنمو، بعد أن ضربت الأزمة العالمية الولايات المتحدة، أكبر أسواق التصدير فى العالم، دون وجود بديل سريع يستوعب حجم ما كانت تستهلكه هذه السوق. ويشير تقرير الاونكتاد لسنة 2010 إلى أن سياسة الاعتماد على التصدير كرست لإبقاء أجور العمال عند مستويات منخفضة, باعتبار أن تلك هى الوصفة الرئيسية لتمكين قطاع التصدير من كسب ميزة تنافسية فى الأسواق العالمية. الأمر الذى لم يعد صالحا لمواجهة تداعيات الأزمة العالمية، لأن زيادة الأجور تحفز الطلب المحلى. ومن ثم تدفع النمو الاقتصادى).

من الواضح أن التقرير يربط موقفه بالتطورات الأخيرة، ولكننا نرى أن التطورات الأخيرة (الأزمة الاقتصادية فى الغرب) كانت حتمية ومتوقعة، كذلك فإن الصين أدركت مبكرا أن مواصلة الاعتماد بصورة كبيرة على التصدير لأمريكا يجعلها رهينة للسياسة الأمريكية، ولذلك بدأت الصين تقلل من التصدير لأمريكا لحساب أسواق أخرى ولحساب السوق الصينى المحلى.

والملفت للانتباه أن التقرير ينصح برفع أجور العاملين فى البلاد النامية، لإنعاش الطلب فى السوق المحلى، وهو عكس السياسة المصرية التى رفضت رفع الأجور إلى الحد الأدنى لخط الفقر 1200 جنيها شهريا، ولكن لا شك أن سياسة رفع الأجور مرتبطة بتطور الصناعة المحلية وهذا غير متوفر فى مصر حاليا، وهذه مسئولية الحكام أيضا!!

وهكذا نرى أننا نضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، عندما نعتمد على إستراتيجية إشباع الحاجات الرئيسية. وهو التزام أخلاقى ودينى، فكيف يوفر الاقتصاد كل مظاهر الحياة الترفية لأقلية بينما قسم هائل (منهم 48% تحت خط الفقر) تنقصه أبسط ضرورات الحياة.

ووفقا لمبادىء الاقتصاد الإسلامى فإن توفير حد الكفاية لجميع المواطنين واجب على الدولة الإسلامية, والمقصود بحد الكفاية حد الحياة الكريمة, حيث تتوفر له كافة الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وعلاج وقدرة على الزواج وتأمين اجتماعى وتعليم.. إلخ، ويختلف حد الكفاية بين زمن وآخر، ومجتمع وآخر. نقول حد الكفاية لا حد الكفاف، فحد الكفاف هو مجرد المستوى الذى يبقى الإنسان حيا على ظهر الأرض. وهو أمر غير مقبول فى الرؤية الإسلامية.

والوصول لحد الكفاية يتم عبر الاستخدام الصحيح والمحكم للزكاة، وهى تكفى عادة، ولكن إذا لم تكف فباب الضرائب مفتوح على الأغنياء.

5. وبالإضافة للأهداف الأربعة التى تتحقق من إستراتيجية إشباع الحاجات الأساسية، فإن هناك هدفا (عصفورا) خامسا هو أهم الأهداف طرا، وهو إقامة الاستقلال على أساس راسخ، فالبلد الذى يلبى احتياجات الجماهير الأساسية، لا يمكن أن يتعرض لحصار خانق أو يخشى ضغوطا سياسية خارجية، فى عهد عبد الناصر استهدف الغرب حصار مصر بمنع القمح عنها. والآن تهدد الدول الغربية بمنع البنزين عن إيران وهو ما دفعها لوضع خطة اكتفاء ذاتى ببناء عدد من معامل التكرير. فأى بلد لن يتعرض لكارثة إذا منعت عنه فى ظروف حرب أو حصار أى سلعة ترفية أو كمالية, ولكنه سيتعرض لكارثة خطيرة إذا منع عنه الأرز أو القمح أو الوقود أو أى سلعة ضرورية مماثلة. ولنتعلم درسا من اليابان، فرغم أنها تجاوزت مرحلة ما يسمى (التنمية) وأصبحت من كبار اقتصاديات العالم (انتقلت مؤخرا من المركز الثانى إلى الثالث) إلا أن اهتمامها بالاكتفاء بالأرز لم يتغير. فاليابان بإمكاناتها المالية قادرة على شراء أرز العالم، ولكن فى حالات الطوارىء (الحرب أو الحصار) فإن كل أموالها لا تنفعها بشىء فى توفير السلعة الغذائية الرئيسية للسكان. لذلك ورغم ضيق الأراضى الزراعية فى اليابان فإنهم يستخدمون كل وسائل العلم لزيادة إنتاجية الأرض من الأرز للاكتفاء الذاتى منه.

بينما يهاجم مدعو الثقافة الرأسمالية من مسئولى الحكومة فكرة الاكتفاء الذاتى، على أساس أنها فكرة مستحيلة، لأنه لا يمكن العزلة عن العالم، ولا يمكن الاكتفاء من كل شىء، وهذا خلط متعمد للأمور، فلا أحد يدعو للانعزال عن العالم، ولا أحد يدعو للاكتفاء فى كل شىء. ولكن كل المجتمعات الرشيدة والحريصة على استقلالها فإنها تسعى لتأمين الاكتفاء الذاتى فى السلع الضرورية, والتى يمثل توافرها ضمانا للأمن القومى والاجتماعى.

وقد يكون الاكتفاء بنسبة 80% أو 90% على أساس أن أى مشكلات فى توريد 10% أو 20% من الاحتياجات من الخارج لا يسبب أزمة خطيرة. ومع ذلك فقد اكتفت باكستان والهند والصين وروسيا من القمح, بل وتمكنت من التصدير فى أغلب الأعوام. وهذه الرؤية ليست بعيدة عن البلاد الرأسمالية، فالولايات المتحدة بكل جبروتها فى استغلال قوتها العسكرية للسيطرة على منابع النفط، تسعى دوما لتخزين استراتيجى من البترول، وتسعى لتطوير كافة مصادر الطاقة الأخرى، حتى تكون احتياجاتها من الطاقة متوفرة على أراضيها، بل يرى البعض (فى أمريكا) أن ذلك ضروريا لتخفيف الارتباط الحاد والمتوتر بأزمات الشرق الأوسط. أما فى فرنسا فقد سعت للاكتفاء الذاتى من الوقود - فى ظل انعدام البترول على أراضيها - بالاعتماد على الطاقة النووية التى تغطى الآن 80% من احتياجات البلاد من الطاقة. ويتصاعد اعتماد اليابان والعديد من الدول الأخرى على المفاعلات النووية لذات السبب. بينما اتجهت البرازيل لاستخدام الذرة وبعض المحاصيل الأخرى لاستخراج مادة بديلة للبنزين (الأثينول) وهى تستخدم الآن على نطاق تجارى واسع فى محطات البنزين.

وسنكتشف على كافة المحاور التى نطرحها أن حكامنا مستسلمون "للمقادير" الغربية والأمريكية, وأنهم يفعلون ما يؤمرون به، ومن كثرة الأوامر أصابهم الدوار, فأصبحوا بلا رؤية حتى فى المساحات التى أباحت لهم فيها أمريكا الحرية!

رابعا: القفزة الكبرى إلى الأمام:

أجمع علماء الاقتصاد على أن أى بلد لا يمكن أن يندفع فى طريق التنمية إلى الأمام بصورة ملحوظة ومؤثرة إلا فى ظل مجموعة منسقة من المشروعات فى مجالات عدة مختلفة ولكنها تمثل معا حزمة متكاملة تنقل البلاد إلى نقطة أعلى على المستوى الاقتصادى العام. وهذا ليس عودة للحديث عن الخطة، بل شرح لمفهوم الخطة الناجحة، فالخطة الناجحة ليست مجرد قائمة من المشروعات يجرى تنفيذها فى زمن معين، فإذا لم تترابط وتتكامل هذه المشروعات مع بعضها البعض ومع الأوضاع الاقتصادية القائمة، فإنها لن تحقق النقلة التنموية المطلوبة، على سبيل المثال: بناء مصنع للحديد والصلب، دون مصانع أخرى تستفيد من إنتاجه، أو بناء مدن جديدة بدون تهيئة كل الظروف المعيشية الملائمة فيها (كما تحدثنا من قبل) فهذا يؤدى إلى إنفاق أموال وبذل جهد بلا طائل. ومنذ الاستقلال لم تحدث محاولة جادة لتحقيق قفزة كبرى للأمام إلا خلال خطة (1959-1964) وقد كان فيها كثير من الثغرات, وكان يمكن تصحيح المسار, ولكن ذلك لم يحدث لأسباب عديدة, ثم جاءت هزيمة 1967. وفى عهدى (السادات - مبارك) فإن البلاد تسير بعشوائية كاملة رغم وجود ما يسمى الخطة، فالخطة عبارة عن أرقام صماء دون رؤية متكاملة لنقل البلاد من مرحلة التخلف إلى النهضة الصناعية الإنتاجية الشاملة، أو نقلها من مرحلة لأخرى. فلم يتم تحديد القطاعات الإنتاجية التى سيتم التركيز عليها، ولا تحديد القطاع الذى يمكن أن يكون قاطرة للتنمية، حتى الاهتمام بالسياحة أخذ شكل التصريحات والصور الرئاسية مع السياح, ولم يتم التعامل معه كقطاع رائد (رغم خلافنا مع ذلك)، فرأينا كيف تفوقت علينا تركيا بعد بلاد جنوب أوروبا بأضعاف مضاعفة سواء من حيث عدد السياح أو المدخول النقدى من السياحة.

خلال 40 سنة لم تكن هناك رؤية واضحة فى أى اتجاه من الاتجاهات، وكانت الحركة فى مجال التنمية مجرد عشوائيات ومشروعات لا رابط بينها: مدن جديدة، توسعات عمرانية، كبارى، مصانع (أغلبها توكيلات لشركات أجنبية).

فلم تنتقل البلاد من مستوى إلى مستوى بأى معيار حقيقى للتقدم, فإذا تركنا أرقام النمو الكاذبة والخادعة، فإن مصر لا تزال فى المرتبة قبل الأخيرة بين الأمم بكل معايير التنمية، أى فى الثلث الأخير مع أكثر البلدان تخلفا, وهى بلدان مجهولة. بمعايير الصناعة نحن أكثر تخلفا، بمعايير الزراعة نحن أكثر تخلفا مما كنا عليه فى الستينيات. كذلك فيما يتعلق بكافة النواحى الإنتاجية: ثروة حيوانية - سمكية - تعدين. وبعد 35 سنة من إعلان الالتزام بالاقتصاد الحر وحرية الاستثمار فإن التقرير السنوى لمجلة فوربس الاقتصادية الأمريكية لتحديد أفضل الدول فى مجال الاستثمار وضع مصر فى المرتبة الـ 84 من 128 ومن البلاد التى سبقت مصر "سريلانكا" التى مزقتها الحرب الأهلية على مدار سنوات عديدة ماضية. أما البلاد التى جاءت بعد مصر فهى دول مثل مالاوى الأفريقية. وسبقت معظم الدول العربية (دول الخليج والأردن وتونس والمغرب) مصر فى الترتيب. ولا يعنى ذلك أن الدول العربية حققت ما ننادى به. ولكن ذلك مؤشر على سوء حالة مصر.

وبدلا من مشروع للقفزة الكبرى، تحدثت الحكومة كثيرا عن البنية التحتية، ولا يوجد فى عالم الاقتصاد مرحلة اسمها (بناء البنية التحتية والمرافق)، فالبنية التحتية تتطور ضمن التنمية الاقتصادية العامة ولا تبنى أولا لوحدها, فهذه فكرة لم يتحدث بها أحد على صلة بالاقتصاد من أى مذهب أو ملة أو قارة أو زمان!!

إن تطوير البنية التحتية والمرافق مسألة لا تنتهى أبدا، فهى جزء مهم ولكنه متفرع من عملية التنمية الشاملة، فإذا كنت تبنى فى مرحلة محطات كهرباء تقليدية، ففى مرحلة أخرى ستبنى محطات كهرباء نووية.. إلخ, وتطور البنية التحتية يتطور مع الاقتصاد ككل. فهل يعلم هؤلاء الذين أكثروا الحديث عن المرافق, أن الصين الآن تنفق على تطوير المرافق: الطرق والكبارى ومصادر الطاقة غير التقليدية أكثر مما تنفق الولايات المتحدة, بل يتحدث حكام الولايات المتحدة عن تدهور خطير فى المرافق والبنية التحتية (الطرق - السكك الحديدية - الجسور) حتى أن الخطاب الأخير لأوباما تحدث عن خطة لإنعاش الاقتصاد على طريقة (كينز) بتطوير شبكات هائلة من الطرق والسكك الحديدية على مدار البلاد ككل.

إذن أمريكا التى وصلت إلى القمر ستظل - هى وغيرها - تتحدث عن تطوير المرافق, ولكن لا يوجد عاقل واحد يتحدث عن البنية التحتية كمرحلة. وقد أدى هذا المنهج إلى الفشل الذريع الذى تعيشه البلاد حتى فيما يسمى البنية التحتية:طرق - كبارى - اختناقات مرورية - انقطاع كهرباء - انقطاع مياه الشرب والزراعة.. إلخ.

فإذا شبهنا المرافق بالأوردة والشرايين, فإن الاقتصاد يمثل كامل الجسد، وبالتالى فإن الطبيب الذى يهتم بسلامة الأوردة والشرايين ويهمل سائر الجسد فإنه سيقضى على المريض ككل بما فى ذلك بطبيعة الحال الأوردة والشرايين!!

والاهتمام العام بالتطور الاقتصادى ككل سيتضمن مسألة المرافق دون هذه الجلبة الفارغة, فعندما ينمو الاقتصاد ستتمكن البلاد من توجيه أموال أكثر لتطوير المرافق وهكذا.

إذن فكرة القفزة الكبرى للأمام لم ترد على ذهن حكامنا على مدار 35 سنة، فى حين وجدنا كيف تمكن حزب العدالة والتنمية التركى من انتشال بلاده من أسوا أزمة اقتصادية, وليرفعها إلى المرتبة الثالثة عالميا فى معدل النمو (9%) بعد الصين والهند خلال 7 سنوات. ورأينا القفزة التى تحققت فى عهد "لولا دا سيلفا" الرئيس البرازيلى خلال 8 سنوات, ونقلت البرازيل من مستوى إلى مستوى آخر, حتى أنها تحولت من بلد نام إلى ما يسمى البلدان الصاعدة, وأصبحت تصنف فى الترتيب العالمى رقم 8, بل وبدأت ظاهرة شراء شركات برازيلية لشركات وأصول أمريكية فى الولايات المتحدة. والنمور الأسيوية انتفضت خلال عقد أو عقدين.

نحن إذن أمام قانون فإما تندفع البلاد دفعة واحدة للأمام فى لحظة محددة لتنتقل إلى مستوى أعلى, ربما إلى مصاف أعلى الدول الصناعية (كحالة ماليزيا) أو يقربها كثيرا من ذلك، إما أن يحدث هذا, وإما أن تظل البلاد تتسكع فى مكانها وتدور فى دائرة مغلقة, وتخفى تخلفها ببعض المبانى الفاخرة, أو الفنادق الفارهة التى تبنيها شركات أجنبية, وغيرها من المظاهر التى تحاول أن توحى بأن البلاد دخلت العصر الحديث!! أو باستيراد سلع متطورة من موقع المستهلك كشراء قمر صناعى لبث قنوات فضائية, وطائرات, وسيارات, وأجهزة كمبيوتر!! دون إسهام إنتاجى. وهذا خداع للنفس قبل أن يكون خداعا للمواطنين, ونحسب بلا تردد أننا فى هذه الحالة.

ويشبه اقتصاديو التنمية قانون القفزة الكبرى للإمام بالإقلاع, فالطائرة مهما جرت على ممر المطار (Run way) لن تقلع من الأرض إلى السماء, إلا بدفعة قوية من المحرك فى لحظة محددة من الاندفاع على الممر.

خامسا: امتلاك أسباب العلم والتكنولوجيا:

من أسوأ المفاهيم التى تناوىء التنمية المستقلة, هى حالة الانكسار والهزيمة النفسية التى يشيعها أنصار التبعية, خاصة عندما يكونون فى السلطة ويملكون وسائل إعلام مؤثرة, وذلك بالحديث عن الدول المتقدمة (وهى دائما أمريكا وأوروبا) بخشوع, وبأنها معيار الصواب، وأنهم فى البلاد المتقدمة يعلمون ونحن ممن لا يعلمون. وطالما أنهم تقدموا علينا ماديا فلابد أن نأخذ منهم كل إنتاجهم الفكرى والعلمى والتكنولوجى. ويدخلون فى روع الناس أن هؤلاء الأوروبيين أكثر ذكاء مننا, وعلينا أن نعترف بذلك وأن نتعامل معهم من موقع التلميذ لعل وعسى! وهذه الحرب النفسية أشد هولا على الشعوب من قصف الطائرات, لأنها تدفعها للاستسلام قبل القيام بأى مواجهه أو حتى محاولة!

وقد خلق الله الناس متساويين, وما الدرجات التى تحدث عنها القرآن الكريم إلا تفاوت محدود فى الحظوظ والقدرات, ولكنها ليست أساسا لتقسيم البشر إلى سادة وعبيد, وعندما سادت الحضارة الإسلامية لم يكن ذلك لأننا كنا أكثر ذكاء من الغربيين, ولكن لأننا أخذنا بأسباب التقدم والحضارة أكثر منهم, وأضفنا إلى ذلك رسالتنا الإيمانية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) هذه هى الآية التى تؤكد المساواة بين البشر, ولا يمكن لأمة أن تنطلق فى معارج التقدم الحضارى بدون امتلاك أهم أسباب القوة وهى العلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ), فالعلم هو مفتاح التقدم المادى فى المجالات المدنية والعسكرية على السواء. وإذا كانت العلوم الطبيعية ذات طابع عالمى فليس معنى ذلك أن نكتفى بالترجمة, فلابد أن تكون لنا إسهاماتنا العلمية, فالذى لا يساهم سيظل طول عمره فى موقع التلميذ البليد, وهذا لا يتأتى بدون تطوير قطاع البحث العلمى, وتطوير التعليم والجامعات. وليس صحيحا أن الغرب يحتكر الكشوف والتطورات العلمية وحده, فهناك إسهامات متزايدة من علماء الشرق, ويقاس تقدم الأمم بعدد الأبحاث العلمية الصادرة عن كل دولة والتى تقدم جديدا فى مجال العلم, وتنشر فى مجلات علمية عالمية معروفة المستوى. ومن الوقائع الثابتة أن كل التجارب الأسيوية التنموية الناجحة اعتمدت على برامج مكثفة لتطوير التعليم، من زاوية رفع المستوى عموما، وإيجاد توازن بين التعليم النظرى والتعليم العملى (العلوم الطبيعية)، وإيجاد توازن بين التعليم العام والتعليم التطبيقى (الصناعى - الزراعى.. إلخ) على أساس احتياجات البلاد. وهذا يؤدى إلى خروج عمالة أكثر مهارة، ولكنه أيضا يضع الأساس العريض للنهضة العلمية، بانتقاء الأفذاذ والمتفوقين من هذه القاعدة وتحويلهم إلى مراكز البحوث. وتشير التقارير الاقتصادية الأخيرة إلى أن العمالة فى الدول الغربية والآسيوية تتجه خلال المستقبل القريب لتكون كلها من خريجى التعليم الجامعى! ولكن تعليم جامعى على مستوى هذه الدول، وليس كذلك التعليم الجامعى فى بلادنا.

لم ينجح نظام مبارك فى شىء أكثر من نجاحه فى القضاء على التعليم، وانشغلت الدولة بأمور سطحية كعدد سنوات المرحلة الابتدائى (5 أو 6) ونظام الثانوية العامة، أما ما سمى تطوير مناهج التعليم فقد كان تحت إشراف أجنبى أمريكى, اهتم بنزع أكبر قدر ممكن من القيم الإسلامية والأخلاقية، أما على المستوى العلمى فلم تزد المناهج إلا هبوطا فى المستوى. أما على المستوى الجامعى فلا يوجد خلاف أن الجامعات الوطنية زاد عددها وهبط مستوى أدائها (وهذا ما سنعود إليه فى فصل خاص عن التعليم إن شاء الله). وإذا كان هذا هو حال التربة العامة التى تغذى وينشأ منها البحث العلمى. فلسنا فى حاجة للبرهنة على انهيار حالة البحث العلمى حتى أن فينيس كامل وزيرة البحث العلمى السابقة أكدت أنه فى بلادنا صفر كبير (لا شىء)!

الأمر لا يقتصر على إسهام البلاد فى تطوير العلوم الطبيعية، وهو أمر ليس بعيدا عن تاريخنا المشرق ولا عن حاضرنا الذى أنجب علماء بارزين بمجرد الخروج من دائرة التخلف فى مصر بالسفر والعمل بالخارج. الأمر لا يقتصر على ذلك، بل يبدو الأمر الأكثر إلحاحا، هو الانطلاق فى مجال التكنولوجيا الرحب، والتكنولوجيا هى تطبيقات فرعية لا نهائية استنادا للحقائق والمعلومات العلمية. والتقنية (أو التكنولوجيا) ليست هى العلم النظرى تماما, بل لها خصوصياتها، فهى توليفة متباينة تستخدم فى تركيبها واختراعها نتائج البحث العلمى. فهى طريقة للإنتاج السلعى أو الخدمى, وبالتالى لا توجد توليفة واحدة تصلح لكل زمان ومكان, وبالتالى تحدث علماء التنمية عن الاستقلال التقنى (التكنولوجى).

وبدون امتلاك الأمة لمعرفة تكنولوجية فسيصبح حديثها عن التنمية المستقلة أضغاث أحلام، لأن هذا الجهل سيجعلها مجرد مستورد (مستهلك) للآلة وقطع غيارها ووسائل صيانتها، وتكون أشبه بالطفل الذى يقتصر دوره على تلقى الرضعات أو الوجبات الغذائية من أمه. مع ملاحظة أن المورد الأجنبى لن يكون فى حنان الأم!! من حيث الأسعار والشروط والأهداف المضمرة!

ولأن التكنولوجيا كما ذكرنا توليفة أو حالة مواءمة بين معلومات علمية معينة وبيئة محددة, فإن ما يصلح لبلد قد لا يكون مناسبا لبلد آخر. فصناعة السيارات تتم بمئات وآلاف التوليفات، وما قد يصلح فى نظم التبريد فى البلاد الباردة، لا يلائم البلاد الحارة، وهناك سيارات موفرة للبنزين، فهذه أفضل للبلاد النامية والتى لا تتمتع باحتياطيات بترولية. والهند الآن بصدد إنتاج سيارة صغيرة لا يزيد ثمنها عن 10 آلاف دولار، وإنتاج كمبيوتر لا يزيد ثمنه عن 10 دولارات. وهكذا فالأمثلة لا تنتهى. وللشعوب إبداعاتها فى مجال آلات الزراعة والصناعة مما هو مفصل فى كتب عديدة روت تجارب التنمية الحقيقية الناجحة. ومن قواعد ذلك الاعتماد على المشروعات كثيفة العمل قليلة الآلات للقضاء على مشكلة البطالة، وقد بنت الصين فى البداية العديد من السدود بهذه النظرية، فعوضت بالعامل البشرى نقص الآلات, وكان ذلك أقل تكلفة بطبيعة الحال. وقد أبدع طلعت حرب فى إنتاج النسيج, حتى أنه أنتج أنواعا أكثر متانة وتحملا من النسيج اليابانى. إذن إبداعات البشر عندما تنطلق لا يحدها حدود، فالمهم هو بث الثقة وتفجير الطاقات وشحذ الهمم واستدعاء الخبرات المخزونة لدى العمال والفلاحين والحرفيين. (راجع على سبيل المثال كتاب: العالم الثالث غدا - بول هاريسون - الهيئة المصرية العامة للكتاب), إذن الانطلاق فى عالم التكنولوجية ضرورى للاستقلال، وهو مناسب أكثر لاحتياجات وظروف البيئة فهو أكثر إنتاجية وفائدة، وهو أقل فى التكلفة، ويؤدى إلى تشغيل عمالة وطنية فى هذه المجالات.

أدعى بعض علماء التنمية فى الغرب أن الفجوة كبيرة جدا بين الدول المتقدمة والمتخلفة وتحتاج لعشرات السنين إن لم يكن أكثر، والحل إذن هو فى نقل كل شىء من الأغنياء إلى الفقراء، بمعنى بناء مصانع على أحدث طراز وبنظام تسليم المفتاح, وأن يتم ذلك بالتدريج حتى يتم تحديث البلد المتخلف. وبطبيعة الحال فإن هذا الأسلوب هو الأكثر ربحية لدول الغرب لأنه سيعنى تصدير مصانع وآلات بمئات وآلاف الملايين، وسيضمن مواصلة الإمداد بقطع الغيار وإمكانيات الصيانة, وسيضمن تبعية الدول المتلقية لأنها لن تكتسب أى معرفة تقنية من استلام مصنع جاهز، إلا مجرد قيام العمال بتشغيل الآلات. وهذا الأسلوب لم يؤد إلى تنمية أى بلد فى العالم، فقد أدى إلى ظهور قطاع اقتصادى حديث أكثر تطورا وأكثر ربحية وأكثر دخلا للعاملين فيه، واستمرار معظم البلاد فى اقتصاد متخلف (وهى ما سميناه الاقتصاد الثنائى). وتقوم الخطة النظرية على أساس امتداد القطاع الحديث تدريجيا ليشمل البلد ككل. وهذا لم يحدث فى أى بلد من العالم لسببين أساسيين:

1- أن الدولة المصدرة للتكنولوجيا ليس من مصلحتها تصدير كل شىء، فهى ستركز على بناء المصانع التى تنتج سلعا استهلاكية لسوق البلد المستورد والأسواق المجاورة. وبالتالى لن تقدم منظومة متكاملة لبناء اقتصاد مستقل أو حتى اقتصاد رشيد. لاحظ مثلا كم الاستثمار الأمريكى فى مصر فى مجالات المشروبات الغازية ومطاعم الوجبات السريعة، وهذا لم يحدث مع مصر وحدها. بل كان نمطا متكررا فى بلدان آسيا الوسطى بعد استقلالها عن روسيا، وحدث فى أفريقيا, وحدث فى أمريكا اللاتينية.

2- أن الدولة المستوردة للتكنولوجيا ستصاب بالمديونية العالية فورا، فشراء المصانع تكلفته عالية، ويتم بشروط إذعان حيث لا تملك المساومة وأنت بلا بديل، والدول المستوردة تتعرض - بسبب جهلها التكنولوجى أو فساد مسئوليها - لشراء أجيال منتهية الأهمية والصلاحية من الآلات أو مصانع ملوثة للبيئة. ويبقى أن الغرق فى الديون نتيجة مواصلة الاعتماد على الخارج يؤدى إلى وقف خطة تمدد القطاع الحديث ليشمل مساحات أوسع من البلاد.

وتمثل علاقة الولايات بدول أمريكا اللاتينية على مدار أكثر من قرن نموذجا حيا لفشل خطة الاقتصاد الثنائى، وهو الأمر الذى أدى إلى إفقار وخراب القارة, وأدى إلى هذا التمرد الذى نشهده الآن ضد الولايات الأمريكية فى معظم الدول اللاتينية.

وسنجد أن البلاد التى أصبح لها وجود مؤثر على خريطة الاقتصاد العالمى هى البلاد التى اقتحمت المجال التكنولوجى وأصبح لها خبراتها الخاصة وإنتاجها المتميز (الصين - الهند - ماليزيا - وباقى النمور الآسيوية - اليابان - البرازيل - إيران).

وتثار أيضا مسألة الفجوة التكنولوجية بين الدول المتقدمة ودول الجنوب على أساس التعجيز, فهؤلاء سبقونا بعشرات السنين، فإذا نحن بدأنا الآن فى التطوير، فهم أيضا لا يتوقفون عن التقدم, ولذلك ستظل الفجوة قائمة على الأقل إن لم تتزايد. وهذا الحديث الانهزامى لا يمت بصلة بسنن التطور، فالتحديات التى تواجه البشر تطلق عقولهم من عقالها! وتحقق فى سنوات قليلة ما قد يحتاج لسنوات أطول فى غياب التحدى. كما أن الأمة التى تأخرت تدرس كل أسباب تقدم الأمم التى سبقتها وتبدأ من حيث انتهت. مثلا عندما صممت كل من الهند وإيران الأقمار الصناعية لم تبدأ من الصفر ولكنها درست كل ما نشر عن صناعة الأقمار الصناعية, وأرسلت طلابها إلى جامعات متطورة فى التخصصات التى تفيد هذا المجال. وبالمناسبة فإن حقائق العلم معظمها مكتوب ومعروف، ولكن الهمم الهابطة وغياب العمل المؤسسى الجاد والهزيمة النفسية هى أسباب عدم توظيف هذا التقدم العلمى فى أعمال تطبيقية. إن أحدا لم يعط الصين أسرار القنبلة النووية، ولكنها حفرت فى الصخر حتى توصلت إليها، ومن ذلك إرسالها الطلاب لمختلف جامعات العالم لامتصاص كل الحقائق العلمية حول هذا الموضوع. ومن الوسائل التى اتبعتها الصين لحرق المراحل مع أمريكا والغرب فى المجال التكنولوجى، القيام بما يسمى الهندسة العكسية, أى القيام بتفكيك الآلة أو الماكينة الأمريكية خطوة خطوة، وإعادة تركيبها من جديد لاكتشاف سر صناعتها. بل وصل الأمر إلى ما يسمى التجسس الاقتصادى, والذى مارسته الصين على أوسع نطاق. وقدم الإنترنت أخيرا وسيلة أكثر نجاعة لاقتحام أسرار الشركات الصناعية بل والأسرار التكنولوجية العسكرية الأمريكية، وهذا أيضا ما تمارسه الصين بنشاط.

إن التنمية كما ذكرنا حرب بقاء أو فناء، لا توجد فيها مجاملات على المستوى الدولى ولا عواطف (هذا من جانب دول الغرب, ولكننا نؤمن بالمجاملات والعواطف مع العرب والمسلمين والخيريين من الناس دون أن يكون ذلك على حساب المصالح الوطنية). لذلك وفى محاولة يائسة لوقف عجلة التاريخ أظهر الغرب سلاح ما يسمى (الملكية الفكرية) وهو سلاح مصيره الفشل لأنه يتعارض مع سنن الحياة. فلا يمكن امتلاك الفكر ولا أسرار العلم والتكنولوجيا، فهى فى الأصل ميراث وملكية للبشرية جميعا، والتطور العلمى سلمته أجيال لأجيال وأمم لأمم. هناك حقوق ملكية لكتاب أو لاختراع لزمن محدد, أما كليات العلم وأسراره فمن العبث محاولة السيطرة عليها أو امتلاكها بصورة أبدية!.

ونرى فى التجربة الإيرانية مثالا حيا على أن الأمة المتأخرة تبدأ من حيث انتهت الأمة المتقدمة, ولذلك فإن اللحاق يكون خلال عقد أو عقدين، وقد ركزت إيران بسبب التحديات على التكنولوجيا العسكرية, فحققت نتائج باهرة فى مجالات عديدة باعتراف خبراء العالم، وكما ظهر واقعيا فى حرب 2006 بلبنان من خلال التسليح المتقدم لحزب الله. ولا شك أن إيران بدأت بتكنولوجيا روسية وصينية وكورية, ولكنها توصلت لتوليفة خاصة بها, وأصبحت لديها قاعدتها العلمية والتكنولوجية للتطور بصورة مستقلة: فى مجال الصواريخ - الحرب الإلكترونية - الطائرات بدون طيار - أسلحة بحرية.. إلخ, وقد ظهر ذلك فى إطلاق أقمار صناعية بتصميم إيرانى وبصواريخ بعيدة المدى، وهذا ما يؤكد أن التطور الصناعى العسكرى ينتقل بعد ذلك إلى المجالات المدنية. ومع ذلك فلإيران انجازات عديدة فى مجال الطب والدواء والأجهزة الطبية. وأعلنت مؤخرا عن ميكروسكوب متقدم من حيث قدرته على التكبير لا يصنع إلا فى 5 دول فى العالم, فلا يوجد فاصل حاد بين التكنولوجية فى المجالين العسكرى والمدنى, وينعكس التقدم فى أى منهما على الآخر, وقد برعت اليابان فى صناعة أنواع متقدمة من الرقائق الإلكترونية بحيث لا تستطيع صناعة الصواريخ الأمريكية الاستغناء عنها!

سادسا: التنمية ليست عملية اقتصادية مجردة:

المفاهيم الاقتصادية الغربية اختزلت العملية الاقتصادية والنمو الاقتصادى فى مجرد زيادة الناتج المحلى الإجمالى، ورفع مستوى المعيشة الذى ينتج عن ذلك. وهو منهج نابع من النظرة الدنيوية للحضارة الغربية, فالدنيا هى منتهى همهم ومبلغ علمهم, وسعادة الإنسان ترتبط حصرا أو أساسا بما يستهلكه من سلع. أما النظرة الإسلامية للحياة ومن ثم التنمية فلا تنكر أهمية زيادة الإنتاج ولا ما ينتج عنها من رفع مستوى المعيشة, بل إن ذلك من الأهداف الثابتة للدولة الإسلامية، ولكن معيار التقدم والتنمية من منظور إسلامى لا يقتصر على كم السلع المادية التى يستهلكها الإنسان, ولكن ذلك يرتبط بمنظومة اجتماعية وأخلاقية متكاملة، وعلى رأسها عدالة توزيع ثمار النمو بين الناس بحيث لا يزداد الغنى غنى والفقير فقرا، بل يتم التقارب بين مستويات الناس، وأن يتحلى المجتمع بالتراحم والأمن والطمأنينة، فلا يموت جائع وجاره شبعان، وتقل معدلات الجريمة، ولا يشعر أحد بالقلق خوفا من عوادى الدهر فيكون لديه ثقة فى تكاتف المجتمع معه فى أى أزمة يتعرض لها. وأن يتضامن الجميع معا مع أصحاب الحاجات والمناسبات كما يحدث فى ريفنا المصرى. وأن يكون حق الضيف ثلاثة أيام.. إلى آخر ذلك من منظومة التكافل الاجتماعى التى تعمل بعيدا عن القوانين وبعد الزكاة التى تعالج جذريا أوضاع الفقراء والمساكين، والمسافرين الذين انقطعت بهم السبل، والغارمين.

فى الولايات المتحدة تقول الإحصاءات أن اثنين من كل ثلاثة إناث يتعرضن للإساءة أو التحرش كمعدل عام، ويتم استهلاك 60% من مخدرات العالم, ولديها أعلى معدل للجريمة فى العالم, فلا يمكن أن نعتبرها مجتمعا أكثر تحضرا من المجتمع المصرى، فما أهمية المستوى الأعلى رفاهية فى غياب الأمان والطمأنينة. والبلدان الإسكندنافية تمثل أعلى مستوى للرفاهية الاجتماعية فى العالم وأكثر من الولايات المتحدة, ولا ينقص المواطن أى شىء, والحكومة مسئولة عن توفير كل احتياجاته الأساسية وغير الأساسية (اشتراكية - ديمقراطية) فى ظل عدد سكان محدود. ومع ذلك فإن السويد تسجل أعلى معدل انتحار فى العالم. وهى الأمر الذى يؤكد أن السعادة لا يمكن ضمانها بارتفاع مستوى المعيشة حتى إلى حد الإشباع. وكما يقال نحن هنا نموت من الجوع وهم هناك يموتون من التخمة (أو الفراغ الروحى)، وبطبيعة الحال فخير الأمور الوسط, أو التوازن بين الروح والجسد, وهذا هو جوهر الرؤية الإسلامية للحياة.

التنمية ليست مختزلة فى عمليات الأكل والشرب والاستهلاك, إنها نمط حياة, والمثير للحنق أن الغربيين يريدون أن يفرضوا علينا نمطهم فى الحياة باعتباره هو النمط الأمثل والوحيد للتقدم. ليس فى المجال الاقتصادى فحسب, بل فى نمط المعيشة والسكن والزواج والأسرة والطفولة, بل وحتى فى أنواع الطعام والشراب. فيصبح مما يعيب المجتمعات الإسلامية: عدم توفر الخمور فى كل مكان - ونقص حفلات الرقص المختلط - وأن النساء تغطى أجسادها أكثر مما يجب!!، وأن هناك قواعد أكثر تشددا فى اختلاط الجنسين، وأن العمل يتوقف لأداء صلاة الظهر، وأن بعض الرجال لا يلتزمون بالزى الأوروبى!! وأن الشذوذ الجنسى غير معترف به ولا يتم تنظيمه بالزواج، وأن الحرية الجنسية غير مكفولة للفتيان والفتيات!

والأساس أننا نسعى لتنظيم حياتنا ومجتمعاتنا وفقا لعقائدنا الخاصة, ووفقا لرؤيتنا الحضارية الإسلامية المتميزة, ونحن نرى أن مفهوم التنمية الصحيح هو عملية تطوير لكل أنحاء المجتمع بطريقة متوازنة ومتسقة. فتجربة الغرب فى النمو مثلا ارتبطت بدفع النساء والأطفال للعمل بدون أى ضوابط, ولا يزال عمل المرأة مستمرا بلا ضوابط حتى الآن, حتى وإن كان على حساب إدارة شئون الأسرة وإنجاب الأطفال, والآن تعانى بعض الدول الأوروبية من تناقص السكان بسبب ذلك: فرنسا - ألمانيا - روسيا - إيطاليا. فى رؤيتنا الحضارية الإسلامية نرى أن تماسك الأسرة كمؤسسة أولى للمجتمع هدف أساسى لبناء المجتمع بصورة متماسكة, وأيضا وسيلة أساسية للتنمية, فتربية الأطفال, أو بناء الإنسان هو أهم عمل للتنمية ويتم استكمال ذلك فيما بعد فى التعليم.

فى التجارب التنموية الأوروبية تم سحق مؤسسة الأسرة، إلى حد أصبحت العلاقات خارج مؤسسة الزواج أكثر شيوعا, وزادت نسبة الأطفال غير الشرعيين ,أما الأسرة فلا تنجب أكثر من طفل واحد أو اثنين كحد أقصى وهو ما لا يخلق حياة أسرية حقيقية.

ومن الناحية الاقتصادية فإن دفع المرأة قسرا للعمل خارج المنزل بدون تمييز, أدى إلى إغلاق كم هائل من المؤسسات الاقتصادية الصغيرة: تربية الدواجن - صناعة الخبز - الجبن - المربات - الحلوى - المخللات - التطريز والتفصيل والحياكة - المشاركة فى الزراعة وتربية الماشية - استخراج المسلى والزبد - المعجنات.

ونحن مع تعليم المرأة إلى أعلى مستويات يمكن أن تصل إليها, ومع مشاركتها فى العمل خارج المنزل والعمل الاجتماعى والسياسى. ولكن ليس على حساب الأسرة, ومع تقدير كل حالة على حدة, وليس باعتبار خروج المرأة بشكل كلى ومطلق من المنزل, وبنفس معايير خروج الرجل، هدفا مقدسا فى حد ذاته. فالهدف المقدس الأول هو بناء الأسرة وحسن تربية النشء، مع التذكرة الدائمة بأن العمل الأسرى جزء لا يتجزأ من العمل الاجتماعى والسياسى (الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق) لذلك فإن تعليم المرأة أمر ضرورى ولا يحتمل المناقشة من حيث المبدأ.

وقد أدى التطور الاقتصادى العالمى إلى العودة لنفس فكرة الاقتصاد المنزلى فكثير من الصناعات الإلكترونية وغيرها فى الدول الأسيوية, تعتمد على قيام رجال ونساء بجزء من العملية الإنتاجية بالمنزل, لأن هذا أكثر توفيرا وأكثر عملية. وكذلك فإن شركات الخدمات الإلكترونية, أصبحت تتوسع فى الاعتماد على عاملين ينجزون أعمالهم من خلال أجهزة الكمبيوتر بمنازلهم لنفس الاعتبارات (السرعة والتوفير, لأن ذلك يكون بأجر أقل - وبدون إشغال حيز فى مكان العمل - وتوفير وقت وجهد الانتقال لمكان العمل). وهذا ينطبق على العاملين والعاملات على حد سواء.

موضوع دور المرأة فى التنمية هو مجرد مثال, وإلا فإن المقارنة بين المفهوم الإسلامى والغربى للتنمية يطول شرحها وتحتاج لدراسة أطول.

ولكننا نؤكد هنا على المعنى العام: إن النمط الحضارى الإسلامى يتمثل فى تنمية وفق مفهوم الأمة الوسط، والتى لا تقدس ولا تعبد معدلات النمو دون الله, ولا تضحى بالعدل والتكافل من أجل إثراء قلة أو من أجل إتباع لملة الدنيويين والماديين.

إن صبغتنا الحضارية الخاصة تنعكس فى نمط المنتجات نفسها، كالاهتمام بوسائل النقل العام أكثر من الخاص, والاهتمام أولا بإشباع الحاجات الأساسية للناس كما ذكرنا من قبل. كذلك فإن نمط المنتجات يحدد أيضا نمط الثقافة والحضارة التى نتبناها. إن نمط الأكل وآدابه ونمط المسكن ونمط اللهو وكل ما يشكل حياة الفرد والمجتمع يخضع لمفاهيم الحضارة الإسلامية وتقاليدها, وكل هذا يحدد للجهاز الإنتاجى نوع ما نطلبه منه.

الإسلام يدعونا للاستمتاع بمباهج الحياة الدنيا: (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أى الحياة الآخرة, هذا هو طرف المعادلة الآخر الذى يميزنا عن الغرب. نحن نرعى الله ولا نعبد إلا إياه, وهذا يعنى أن نرتب حياتنا وفقا لأوامره وتجنبا لنواهيه, والله خلق لنا ما فى الأرض لنتمتع به وفقا لضوابط واضحة: العدل دون الظلم, الرحمة دون القسوة, الحفاظ على البيئة لا تدميرها, التراحم بين الناس لا التكالب على الأرباح والأموال والمنافع بصورة غير شرعية, إعمار الأرض بما لا يضر بالآخرين. وحتى حق التملك لا يبيح الإضرار بالآخرين, والحاكم لا يسمح بوقوع الاستغلال بل يتدخل لإحقاق الحق بين الناس. ولا يسمح بالتربح من حرام: ميسر, خمر, لحم خنزير, ربا, احتكار. ولا يسمح بإهدار نعم الله للحفاظ على مستوى الأسعار.

ففى تجارب الغرب رأينا أمثلة عديدة لإعدام بعض السلع الغذائية أو إلقائها فى البحر حفاظا على الأسعار من الانخفاض. وهذا لا يمكن أن يحدث فى بلد مسلم, حيث تعلمنا أن إلقاء كسرة خبز واحدة فى القمامة حرام, لأنه إهدار نعمة من نعم الله, ولذلك استخدمت بقايا الطعام فى الريف دائما لتغذية الدواجن. فى المجتمع الإسلامى يتم تعويض أصحاب العمل إذا خسروا بشدة من انخفاض الأسعار, ولكن لا يسمح لهم بإهدار سلع غذائية, حتى لا تنخفض الأسعار, فلتنخفض الأسعار ويتمتع بذلك الفقراء, أو ترسل هذه المواد الغذائية لشعوب فقيرة تعانى من مجاعات أو كوارث إنسانية.

وما لا يدركه الناس أن التكافل الاجتماعى فى الإسلام لا يعنى التكافل مع الفقراء وحدهم, فالأغنياء يتعرضون لأزمات شديدة بسبب أوضاع اقتصادية خارجة عن إرادتهم, أو بسبب أخطاء لهم بحسن نية أو بسبب كوارث طبيعية, وهؤلاء يتحولون إلى فقراء فى لحظة واحدة، ولابد من التضامن معهم عبر الزكاة أو بوسائل أخرى, ليس لأسباب إنسانية فحسب, بل أيضا للحفاظ عليهم كمستثمرين لهم خبرات فى مجالات محددة, لا يريد المجتمع أن يفقدها. أما فى المجتمع الرأسمالى فإن الرأسماليين يسعدون بتدمير بعضهم البعض, وشراء الشركات الصاعدة لشركات هابطة, أما الدولة فلا تتدخل إلا إذا حدثت كارثة عامة تهدد أسس المجتمع كما حدث عام 2008 فى الولايات المتحدة.

نحن لا نقول بعدم سعينا لتحقيق أعلى قدر من النمو والإنتاج, وأعلى مستوى للمعيشة, ولكن شريطة ألا يكون ذلك على حساب تعاليم الإسلام, فتجربتنا التنموية لن تكون فيها (لاس فيجاس) مدينة الميسر التى تحقق أرباحا جنونية فى الولايات المتحدة. ونحن لن نرفع معدل النمو بالاعتماد على ترخيص الدعارة!! وهذه أمثلة فجة, ولكنها توضح بجلاء ما نقصده. فى مؤتمر دولى بالمغرب كان ينظمه البنك الدولى استمعت لمسئول من تايلاند يتحدث عن التجربة التنموية المبهرة فى بلاده, ولم يخف أن ترخيص الدعارة ورعاية الدولة لها قد أسهم فى تنشيط السياحة. وأن ذلك رفع من معدل النمو. قال ذلك بلا حياء وهو يتحدث باللغة الإنجليزية, ولكنه اكتفى باستخدام كلمةfun (مرح ومتعة) بدلا من كلمة دعارة!!

وإذا كانت معدلات السياحة لن تزيد إلا بهذا الأسلوب أو بالسماح بشواطىء للعراة أو شبه العراة، فإننا نقول: الله الغنى! (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (التوبة: 28).

إذا أدى ذلك إلى تراجع معدل النمو عن معدل نمو تايلاند فأهلا ومرحبا بهذا التراجع، وتصبح بلادنا أكثر رقيا وتحضرا، وبتنمية أفضل من وجهة نظرنا.

فى سـعينا لزيـادة النمو بالوسـائل الحلال كثـيرا مـا يختزل الإســلاميون - وأيضا المعادون للإسلام - الإسلام فى تحريمه للخمر والتعرى والميسر والدعارة، فى حين أن تحريم الفساد والظلم أكبر عند الله. إن العدل هو القيمة العليا فى الإسلام بعد الإيمان بالله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ), ذلك أن الفساد فى الأرض والظلم يعمان سائر المجتمع ويفتنان الناس جميعا، وقد يكون شرب الخمر أو الميسر مجرد انحراف فردى هنا أو هناك، أما إذا تحول إلى منظومة عامة ترعاها الدولة كنموذج تايلاند، عندما يتحول الخمر أو الميسر أو الدعارة إلى منظومة عامة فهذا هو الفساد فى الأرض. ولكن سيظل الأهم: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ).

وإذا قدر لك - لا قدر الله - أن تتجول فى جهنم فستجد فيها من يقول: (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ), أو من يقول: (مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيهْ . هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيهْ), وستجد جهنم ممتلئة بالمترفين: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ...) (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة: 45), ولا يعنى ذلك أن جهنم ستقتصر على الأغنياء المترفين المستبدين المفسدين فى الأرض, ولاحظ أن هذه صفات مركبة, لأن الغنى وحده ليس تهمة، طالما قام الغنى بأداء حقوق الله والناس, وهم الذين وصفهم القرآن أيضا بالمستكبرين الذين جمعوا بين سلطان الحكم وسلطان المال (تحالف فرعون - هامان - قارون). لن تقتصر جهنم على هؤلاء بل ستعج بأتباعهم من الجنود والموظفين والأدوات البشرية من المستضعفين، الذين ارتضوا أن يكونوا عبدة البشر من دون الله.

وفى جهنم سيتبرأون من بعضهم البعض: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة: 166-167), لو استمع هؤلاء التابعون لهذا الحوار الدقيق والمذهل الذى سيجرى فى جهنم وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا الغيب من أجل التحذير.. لو استمع هؤلاء لهذا الحوار لأدركوا هول ما هم فيه, لأنهم باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، فهم لم يتمتعوا كما تمتع سادتهم فى الدنيا، ثم هاهم متساوون فى الآخرة.

- (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).

- (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) - (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا).

- (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ: 31-33).

فالمترفون المستكبرون أو ما نسميهم الآن (الاستغلاليون.. المستبدون)، لن يكونوا وحدهم حطب جهنم، بل كل من أعانهم وساعدهم وناصرهم من المستضعفين.

نقصد من هذه الجولة السريعة فى جهنم أن نقول أن الميزان الربانى يضع العدل بشقيه: الاجتماعى والسياسى فى أعلى سلم درجات التقييم فى الدنيا والآخرة. وأن الظلم هو الجريمة الثانية للإنسان فى الأرض بعد الكفر، بل كثيرا ما يقترنان معا، ويستخدمان فى القرآن كأنهما مترادفين من شدة اقترابهما من بعضهما البعض، ولكن يظل هناك تمايز بين الكفر والظلم, بل يقول علماء اللغة عموما إنه لا يوجد ترادف فى اللغة العربية إلا على سبيل التقريب، ولكن كل كلمة أو صفة لها تفردها. ما يعنينا فى هذا المقام أن الظلم هو الجريمة الثانية فى القرآن بعد الكفر بحساب عدد مرات الورود فى القرآن. (الإحصاء فى دراسة: العصيان المدنى.. رؤية إسلامية). وكثيرا ما يغفل الإسلاميون ذلك. الإسلاميون يريدون الهرب من مواجهة الطغاة بدعوى أنهم لا يزالون فى مرحلة الاستعداد (وهو استعداد دائم لا ينتهى!) ولا يتذكرون أن موسى ذهب لفرعون ولم يكن معه فى التنظيم إلا شخص واحد آخر غيره (هارون!).

أما أعداء الإسلام فيهمهم أن يصوروا الإسلام ضيق الأفق غير مشغول إلا بملابس المرأة وتحريم الكوافير والسينما وإعلاء شأن الجلابيب. ونحن نفتخر بالضوابط الشرعية الصحيحة فيما يخص المرأة والفنون والاختلاط وسنن الفطرة (بعيدا عن تشويهات ومبالغات الأعداء), ولكن من واجبنا دائما أن نوضح الصورة العامة للرؤية الإسلامية, وأن منظورها يغطى الحياة كلها.. وأن العدل هو أساس الملك.

*****

التنمية المستقلة يمكن أن تكون عنوانا لكل برامجنا الداخلية، لأن التنمية فى مفهومنا الإسلامى لا تقتصر على الاقتصاد، بل تشمل العلم والتعليم والإعلام وإصلاح النظام السياسى، والقضائى والتشريعى، والواقع أن الغرب بدأ يعترف بهذه الرؤية, ويتحدث عن التنمية البشرية بحيث لا يقتصر تقييمه للدول على أساس معدل النمو الاقتصادى وحده. ومع ذلك تظل معايير التنمية البشرية مختلفة عن رؤيتنا لأنها تركز على مؤشرات مادية: فى مجال التعليم والصحة والمرافق.. إلخ, كما أن مؤشر النمو الاقتصادى لا يزال يحتل الأولوية القصوى, وهو فى بؤرة اهتمام تحليلات الغرب. وحتى لا نؤجل مسألة الإصلاح السياسى وهو موضوع الساعة، نتحدث عنه فى الحلقة القادمة، ثم نعود إلى الشئون الاقتصادية ونتناولها بشكل قطاعى، والتعليم، والصحة، والبحث العلمى.

No comments:

Post a Comment